استعصى قطاع غزة على مسار التسوية، وهو من باب أولى يستعصي على صفقة القرن. وقد أدى الصمود والإبداع الفلسطيني عبر المسيرات إلى إرباك البيئة الساعية لإنفاذ التسوية أو الصفقة.
بالرغم من مرور نحو عامٍ على التسريبات، حول ما أصبح يعرف بـ"صفقة القرن"؛ إلاَّ أن الولايات المتحدة لم تطرح حتى الآن هذه "الصفقة" بشكل رسمي. في الوقت نفسه، تركت المجال لانتشار التسريبات و"الشائعات" عن بنود الصفقة ومعالمها؛ بناء على حوارات ولقاءات يجريها المسؤولون الأمريكيون المعنيون مع قادة ومسؤولين فلسطينيين وعرب وإسرائيليين، وما يصل بشكل أو بآخر لمراكز الدراسات والإعلام.
ضغوط وفرض حقائق:
ويظهر أن السياسة الأمريكية تتعمد قدراً من الغموض والتأخير، سعياً لمتابعة الضغوط وتحقيق قدرٍ من التهيئة النفسية، ومحاولة إيجاد بيئة قبول مناسبة. في الوقت نفسه، تحاول الحصول على قبول الأطراف المعنية بالخطوط الرئيسية للصفقة، قبل الإعلان الرسمي عنها، قطعاً للطريق على احتمال الإعلان المبكر لفشلها. وتحاول عزل الجانب الفلسطيني وإضعافه، من خلال نزع ورقة القوة العربية من يده، بحيث تتحول موافقة الدول العربية على الصفقة إلى ورقة ضغط على الفلسطينيين أنفسهم. كما أن روح الأداء الأمريكي مبني على فرض "الإملاءات" وبناء الحقائق على الأرض، أكثر من إدارة مفاوضات تنتهي بتوافق الأطراف الأساسية. ولذلك سعى الأمريكان لحسم مصير القدس من خلال اعترافهم بالقدس عاصمة لـ"إسرائيل"، ونقل سفارتهم إليها؛ وكذلك سعوا لإضاعة حقّ اللاجئين الفلسطينيين في العودة، من خلال إغلاق "أونروا" ومشاريع التوطين.
معالم الصفقة:
أما أبرز ما تمّ تسريبه عن الصفقة، فهو يتحدث عملياً عن حكم ذاتي فلسطيني في الضفة الغربية وقطاع غزة (يمكن أن يُسمى دولة من الناحية الرسمية أو الشكلية) لا سيادة كاملة له على الأرض، ولا على الجو، ولا على الحدود، ولا يملك جيشاً. وهو حكم على أجزاء من الضفة الغربية (لم تحدَّد مساحتها النهائية) وعلى قطاع غزة؛ وستبقى المستوطنات وما وراء الجدار تحت "السيادة" الإسرائيلية. وستُضم القدس وخصوصاً البلدة القديمة، للكيان الإسرائيلي؛ مع اصطناع "قدس جديدة" للفلسطينيين في أبو ديس وبعض أحياء شرقي القدس. وسيحرم الفلسطينيون من حقّ العودة إلى الأرض التي أخرجوا منها سنة 1948. ويسعى الأمريكان إلى تحقيق "التطبيع" العربي مع "إسرائيل" قبل إتمام مشروع التسوية، كما يسعون إلى حرف بوصلة الصراع مع العدو الصهيوني، عبر إنشاء تحالف عربي – إسرائيلي، في مواجهة إيران، وما يسمى "التطرف الإسلامي"، وتيارات الإصلاح والتغيير في المنطقة، بما يضمن بقاء واستقرار الأنظمة السياسية المتوافقة مع السياسة الأمريكية.
وبشكل عام، فإن ما أشيع عن الصفقة هو أقرب للرؤية الإسرائيلية للتسوية. ولعل ثمة تعمُّد في البدء بالسقف الإسرائيلي، حتى يبدو الاقتراب إلى التصور العربي – الفلسطيني بعد ذلك "مرونة" وعملية "تنازلات مؤلمة" و"تضحيات" قدمها الإسرائيليون، بينما يتم تضييع ما كان يُعدُّ عقبات كبرى في طريق التسوية مثل حقوق اللاجئين، ومستقبل القدس، والسيادة الكاملة على الأرض.
تعثُّر الصفقة:
غير أن صفقة القرن تعاني في هذه الأيام من مصاعب حقيقية، ومن حالة تَعثُّر، جعلت الأمريكان يؤجلون الإعلان عنها عدة مرات خلال هذا العام، كان آخرها قول ترامب يوم 26/9/2018 أنه سيؤجل إعلانها لعدة أشهر. ويعود ذلك إلى حالة الإجماع الفلسطيني على رفضها، وإلى تراجع الحماسة العربية تجاهها، وربط الدول العربية موافقتها بموافقة الفلسطينيين، وسحب الملك سلمان ملف "الصفقة" وقضية فلسطين من يد ابنه محمد. هذا، بالإضافة إلى ارتباك السياسة الأمريكية الخارجية.
ولعل مسيرات العودة الكبرى التي نفذتها القوى الإسلامية والوطنية في قطاع غزة، على مدى أسابيع متواصلة، منذ 30/3/2018 قد أسهم بشكل مهم في إيجاد بيئة غير مواتية لتمرير "الصفقة". إذ إن حالة الغضب والإحباط والمعاناة في القطاع قد وُجِّهت نحو العدو الإسرائيلي؛ ولم تنفجر في وجه حماس ومشروع المقاومة، بعكس رغبة الأطراف المشاركة في الحصار، التي كانت تضغط باتجاه انهيار "حكم حماس". وكما كانت هذه المسيرات رافعة شعبية وإعلامية لقوى المقاومة؛ فقد تحولت إلى أَرَقٍ ومخاوف إسرائيلية من اختراق فلسطيني شعبي للحدود، فضلاً عن الحرائق والخسائر التي تسببت بها الطائرات الورقية والبلالين الحارقة. هذا بالإضافة إلى ظهور الوجه الإسرائيلي بأبشع صورة، نتيجة عمليات القتل المتعمد وإطلاق الرصاص على المدنيين.
وبالتأكيد، فإن السلوك الأمريكي بنقل السفارة الأمريكية للقدس، أوجد أجواء شعبية واسعة معادية للسياسة الأمريكية، وغاضبة على حالة الضعف العربي والإسلامي، التي لم تفعل شيئاً جاداً لمواجهتها.
كل ذلك أسهم في إيجاد أجواء محرجة وغير مناسبة للبلاد العربية، للسير قُدُماً في موضوع الصفقة؛ وهو ما دعا دولاً كالسعودية ومصر والأردن أن تطلب من الأمريكان تأجيل الإعلان عن الصفقة، (حسب تسريبات لصحيفة إسرائيل هايوم في 2018/8/3).