فلسطين أون لاين

​الحرب على الأقصى والتقسيم المكاني

منذ تاريخ ما يسمى ذكرى خراب الهيكل اليهودي في تموز الماضي حتى هذه اللحظة نشهد تصعيدًا غير مسبوق للعدوان على المسجد الأقصى، عدوان تقوده وتنفذه جمعيات تلمودية وتوراتية متعددة: "طلاب من أجل الهيكل"، و"نساء من أجل الهيكل"، و"حاخامات من أجل الهيكل"، و"ائتلاف من أجل الهيكل"، وغيرها من الجمعيات التلمودية والتوراتية المتطرفة، والشيء اللافت في الحرب المستمرة والمتواصلة على المسجد الأقصى ليس زيادة حجم ووتيرة الاقتحامات وأعداد المقتحمين للمسجد الأقصى بمباركة المستويين السياسي والأمني الإسرائيليين، ومشاركة أعضاء كنيست ووزراء في عمليات الاقتحام، بل أن عمليات الاقتحام تلك ترافقها إجراءات عقابية غير مسبوقة بحق المصلين والمواطنين الفلسطينيين وحراس وموظفي وسدنة المسجد الأقصى، مثل الضرب المبرح والقمع والتنكيل، والاستدعاء للتحقيق والاعتقال والإبعاد عن المسجد الأقصى ومدينة القدس، وفرض القيود عليهم، ومنع حراس المسجد الأقصى وموظفيه من الدخول، وبالمقابل نجد من يقومون بعمليات الاقتحام من المستوطنين والجمعيات التلمودية والتوراتية يمارسون كل أساليب الاستفزاز والعربدة والبلطجة تحت حماية وحراسة شرطة الاحتلال وقواته الخاصة، مثل: الدخول بلباسهم التلمودي والتوراتي، وأداء طقوس وصلوات تلمودية وتوراتية في ساحات المسجد الأقصى، وشتم المصلين بألفاظ نابية، وإطلاق المسيرات الاستفزازية في داخل البلدة القديمة، والتعدي على التجار -خاصة في سوق القطانين- وإجبارهم على إغلاق محالهم التجارية ... إلخ.

والشيء الخطير الذي يجب التنبه له أن أغلب صلواتهم التلمودية والتوراتية يؤدونها في الجهة الشرقية من المسجد الأقصى، منطقة باب الرحمة، وعمد المقتحمون إلى أداء طقوس وصلوات تلمودية في مقبرة باب الرحمة، ونفخ في البوق هناك، ما يؤشر على أن الهدف لهذه الاقتحامات المتواصلة والمستمرة هو فرض السيطرة على مقبرة باب الرحمة، التي حول جزء منها إلى حديقة تلمودية توراتية وممرات ومسارات توراتية بعد الاستيلاء عليه، ولذلك نرى أن الهدف من هذا التصعيد لعمليات الاقتحامات هو التمهيد لتغيير الواقع التاريخي والقانوني للمسجد الأقصى، المرحلة الثانية من المخطط الصهيوني لفرض التقسيم المكاني على المسجد الأقصى، كما حصل في الحرم الإبراهيمي الشريف؛ وأيضًا تحويل الوصاية الأردنية على المسجد الأقصى إلى مجرد وصاية شكلية، ليس أكثر؛ وإخراج الأوقاف الإسلامية من دائرة المسؤولية الإدارية عنه.

عندما يصل الأمر إلى دخول أحد رجال شرطة الاحتلال الذين يحمون المستوطنين المقتحمين بزجاجة خمر إلى ساحات الأقصى؛ فهذا مؤشر على مدى العنجهية، واستخفاف مشاعر المصلين المسلمين ومليار ونصف مليار مسلم، وعدم احترام قدسية المكان.

المعركة القادمة والحرب الدائرة على المسجد الأقصى المتواصلة والمستمرة سيكون عنوانها الصراع على هوية المكان، هوية القسم الشرقي من المسجد الأقصى، باب الرحمة الذي يدعي المتطرفون الصهاينة أنه الباب القديم والجديد للهيكل المزعوم، وهذا يعني بالملموس الجزء الشرقي من صحن الأقصى، الممتد من باب الرحمة إلى مدخل التسوية الشرقية (المصلى المرواني)، شاملًا مقبرة باب الرحمة.

ما يجري من تصعيد هو "بروفات" تمهد للتقسيم المكاني للأقصى، بعد إنجاز التقسيم الزماني، بتحديد ساعات في الصباح، وما بعد الظهر، يقتحم فيها المتطرفون الصهاينة المسجد الأقصى، إذ عمد الاحتلال إلى إغلاق المسجد الأقصى مرتين مددًا قصيرة خلال شهر واحد في تموز وآب الماضيين، تحت حجج وذرائع مضايقة المصلين الصهاينة، وادعاء محاولة شاب فلسطيني تنفيذ عملية طعن بالقرب من إحدى بوابات الأقصى، وأنه خرج من المسجد الأقصى، والاحتلال في عمليات الإغلاق يقوم بعمليات قياس وجس نبض لردود فعل المقدسيين أولًا، كونهم الحلقة المركزية في الدفاع عن المسجد الأقصى، فالمحتلون لديهم أوهام بأن الحرب التي يشنونها على المقدسيين في كل الاتجاهات وعلى كل الصعد ستضعف من عزيمتهم وإرادتهم وتشتت جهدهم، مثل استهداف سكان الخان الأحمر أحد التجمعات البدوية بالطرد والتهجير القسري، ومحاولات الاستيلاء على عدة قطع أراض وبيوت في منطقة الشيخ جراح وكبانية أم هارون لإقامة مشاريع استيطانية جديدة، على أنقاض أراضي وبيوت المقدسيين، وإقامة مئات الوحدات الاستيطانية، و"طحن" المقدسيين في كل تفاصيل ومناحي حياتهم الاقتصادية والاجتماعية، وكذلك حالة الشرذمة والانقسام الفلسطينيين، والانهيار العربي غير المسبوق، الذي وصل إلى حد تعفن النظام الرسمي العربي، فلم يعد يجيد أكثر من لغة الشجب والاستنكار بلغة خجولة، أو التباكي على بوابات المؤسسات الدولية والبيت الأبيض الأمريكي.

أخشى أن تكون العوامل التي هيأت لتحقيق نصر مستحق في معركة البوابات الإلكترونية في تموز من العام الماضي لم تعد قائمة ومتماسكة كما يجب، فالمحتل بات "يتوحش" و"يتغول" تغولًا غير مسبوق على شعبنا ومقدساتنا، فهو يريد أن يستثمر انتقال الإدارة الأمريكية الحالية إلى مرحلة المشاركة الفعلية والمباشرة في العدوان على شعبنا إلى جانبه بالاعتراف بالقدس المحتلة عاصمة لكيانه، ونقل السفارة الأمريكية من (تل أبيب) إلى القدس، ومحاولة تصفية وكالة الغوث واللاجئين الفلسطينية (أونروا) في القدس، وتقليل المساعدات المالية الأمريكية للمشافي العربية بالقدس، بما لا يقل عن عشرين مليون دولار، ما يمكنه من تجريد المقدسيين من ممتلكاتهم ومقدساتهم، ولذلك نرى أن الحرب على الأقصى تتصاعد وتائرها تصاعدًا غير مسبوق، في إطار حرب شاملة، يسعى المحتل إلى صبغها بالطابع الديني، لكي يتمكن من فرض وقائع التغيير القانوني والتاريخي لوضع المسجد الأقصى بتقسيمه مكانيًّا.

في ضوء الحرب المستمرة على المسجد الأقصى: اقتحامات، وحفريات، وإقامة أبنية تلمودية وكنس ملاصقة للأقصى، وأنفاق تحفر أسفله تمتد إلى خارج جدران البلدة القديمة، تحديدًا منطقة عين اللوزة في سلوان، والتوسيعات الجارية في ساحة البراق، والتصدعات في الأساسات الغربية للمسجد الأقصى؛ إن المسجد الأقصى يقترب من ذروة الخطر الجدي والحقيقي، الذي يتطلب مجابهة ومواجهة المخطط الإسرائيلي، برسم إستراتيجية شمولية لكيفية الدفاع عنه وحمايته من مخاطر التقسيم المكاني، قبل الانتقال إلى مرحلة هدم المسجد القبلي، وإقامة ما يسمى الهيكل المزعوم مكانه، إستراتيجية رأس حربتها المقدسيون، ولكن بالضرورة أن يُسند المقدسيون في مواجهتهم واشتباكهم الشعبي الجماهيري السلمي مع المحتل، بخطوات عملية فلسطينية وعربية وإسلامية تصلب من موقفهم وتدعم وتعزز صمودهم، ليس فقط على صعيد الموقف السياسي والنضال الدبلوماسي والقانوني والحقوقي، بل يجب أن يردف ذلك بضغوط جدية وحقيقية على الاحتلال والدول الداعمة له، تشمل استخدام سلاح العقوبات الاقتصادية والتجارية والدبلوماسية والمالية ضد الدول التي تقف إلى جانب الاحتلال، وتقدم له الدعم والغطاء في إجراءاته وممارساته وقراراته وتشريعاته وقوانينه المستهدفة تجريد المقدسيين من أرضهم ومقدساتهم.

المرحلة القادمة من الحرب على الأقصى سيكون عنوانها الصراع على الهوية للقسم الشرقي من المسجد الأقصى، باب الرحمة ومقبرة باب الرحمة، وهذه الحرب ربما تدفع الأمور نحو هبة شعبية جماهيرية واسعة على غرار هبة باب الأسباط في تموز 2017م، وهذا كله يحتاج إلى توحد ميداني لكل المكونات والمركبات السياسية والدينية والمجتمعية والشعبية في القدس، على أن يتناغم ذلك ويتكامل وموقف وإرادة رسميان يرتقيان إلى مستوى الخطورة التي تحدق بالأقصى.

--