ترفع (إسرائيل) من مستوى التصعيد في الميدان لصالح ترسيخ ما تعتقد أنه إخضاع قطاع غزة لسياستها وإبقاؤه في دائرة العزلة، وأكثر من ذلك لصالح امتصاص نتائج مسيرات العودة التي انطلقت خلال الأشهر الأخيرة، وما يمكن أن نسميه التفافًا على المواقف الدولية التي نشأت منذ مارس الماضي وانطلاق مسيرات العودة التي أعادت القضية الفلسطينية إلى سلم الأوليات الدولية بعد غياب طويل، وتدخلت لنجدتها في ذلك العديد من الأطراف والجهات، سواء حرصًا منها عدم الذهاب لمواجهة لا يرغب بها أي طرف، أو لمصالح تهدف إلى دمج قطاع غزة من حيث يدري أو يدري ضمن ما تعرف بصفقة القرن.
حقق الاحتلال نجاحًا في اتجاهين الأول أن حيّد المجتمع الدولي بعد أشهر من انطلاق مسيرات العودة عن الاهتمام، وكذلك إيهام الآخرين أن ما يحدث من تهدئة هو جزء من صفقة القرن، وتماهى مع ذلك محمود عباس الذي وجد ضالته لشرعنة موقفه، على الرغم من أن كل الدلائل تشير إلى أنه يتقارب مع الاحتلال في مواقفه بنسبة تصل إلى 99%، وهي نسبة ليست مجازية بل واقعية عبر عنها في لقاءاته مع الإسرائيليين، وهو لا يخفي ذلك، وعليه تكون (إسرائيل) قد حققت ما رغبت به بأن استخدمت قفازًا لصالحها والاختفاء خلف مخططاتها.
في مقابل النجاح الظاهر الذي حققته (إسرائيل)، فهي تفشل مجددًا في تقديرات الموقف لما يحدث في غزة من وقائع وتغيرات نتيجة الضغط الإسرائيلي المتواصل الذي سيكون من الصعب عليها السيطرة عليه إذا ما انفلت من عقاله، وأن رهانها يمكن أن ينهار في لحظة فارقة تقود المنطقة نحو الحائط، إذا ما واصلت سياسة حشر قطاع غزة في الزاوية.
المحاولات التي تمت خلال الأسابيع الأخيرة في وضع غزة ضمن صفقة القرن، أو إيهام الآخرين أن ما تم من حوارات حول التهدئة هو للمساهمة في تهيئة الأجواء لصفقة القرن، هي حالة إيهام فاشلة دخلت فيها بعض الأطراف، وثبت لها اليوم أن غزة لا يمكن أن تكون جزءًا من ذلك، بقصد أو دون قصد، لذلك أعرضت (إسرائيل) وبعض الوسطاء عن ذلك، واليوم هناك وجه جديد لعملية الضغط على غزة، عبر تشديد الحصار ومزيد من العدوان وإدخال الجمهور في حالة من الإحباط.
مشهدان في غزة الأول هو مسيرات العودة التي تتواصل رغم كل محاولات تهميشها أو إيقافها والنيل منها، وهو مشهد مستمر طالما بقيت نفس الظروف، فيما المشهد الثاني الذي يعاني فيه الآلاف من المواطنين بغزة من الفقر والبطالة، والوقوع تحت سيف الإجراءات العقابية التي تنفذها (إسرائيل) وعباس، في سبيل إخضاع غزة لصفقة قرن لكن بطريقة مختلفة، بعد أن فشلت المحاولة الماضية، فيما يتناسى الطرفان أن الرهان على إخضاع الشعوب هي رهانات خاسرة، فما بالنا بمن تمرس على تجاوز الصفقات المشبوهة، وربع قرن من مسيرة أوسلو، وقدم الآلاف من الشهداء وآخرهم أمس شهداء القدس ورام الله وبيت حانون وخانيونس.