"قنوات خلفية"، سار فيها رئيس وفد "أوسلو" المفاوض محمود عباس، بمباحثات وصفت بالسرية في العاصمة النرويجية أوسلو، باغتت حتى رئيس وفد منظمة التحرير المفاوض في العاصمة الإسبانية مدريد، الراحل د. حيدر عبد الشافي.
لم يكن عبد الشافي يعلم أن مفاوضات سرية تجرى وراء الستار، إلى أن أُعلن اتفاق أوسلو في أيلول (سبتمبر) 1993م، حسبما أقر في حوار معه في تسعينيات القرن الماضي، نشرته مؤسسة الدراسات الفلسطينية، مبينًا أنه حينما قرأ الاتفاق قراءة أولى قال: "إنه سيئ، سيضعنا في صعوبات كثيرة".
أصاب الاتفاق عبد الشافي بـ"خيبة أمل كبيرة"، ولم يخفِ حقيقة "أوسلو" قائلًا: "أعتقد أننا قمنا بتضحيات مخيفة في مقابل اتفاقية تشتمل على عيوب كبيرة (...) (إسرائيل) وجدت في المناطق بفضل قوتها العسكرية، واستطاعت أن تفرض علينا ما أرادت أن تفرضه ضد إرادتنا وضد مقاومتنا، بقوتها العسكرية".
وأقر بأن كيان الاحتلال مبتهج كون هذا الاتفاق يمثل في الجوهر تنازلًا عن الحق الفلسطيني في دولة مستقلة، وقبولًا بالحكم الذاتي مرحلة نهائية.
والبديل عن توقيع الاتفاق كان عدم التوقيع، وعدم التسليم بمطالبة الكيان بالأراضي المحتلة، بحسب رأي عبد الشافي، الذي وصف ما جرى بأنه "تقديم تنازلات هائلة".
ولا يوجد في "أوسلو" ما يشير إلى أن الاحتلال سيوقف عملية بناء المستوطنات ولن يزيد عدد المستوطنين في الضفة الغربية، الذي تضاعف سبع مرات منذ توقيع الاتفاق.
وكان رئيس وفد مدريد المفاوض عام 1991م مدركًا أيضًا لكون اتفاق "أوسلو" مصوغًا بعبارات عامة تترك مجالًا لتفسيرات واسعة، "وعندما تنصرف المناقشات إلى التطبيق سيرى الناس أننا بعيدون جدًّا عن أهدافنا السياسية" والقول لعبد الشافي، الذي أعرب عن معارضته هذا الاتفاق "من أساسه".
عباس مخطط "أوسلو"
يقول عضو الوفد المفاوض في مدريد فريح أبو مدين: "إن عباس كان المخطط لاتفاق "أوسلو"، وكان راعيًا لهذا المشروع، وعلى رأس الوفد المفاوض في أوسلو".
ويؤكد أبو مدين لصحيفة "فلسطين" أن الوفد في مدريد تفاجأ بمباحثات أوسلو، مبينًا أن مباحثات العاصمة الإسبانية كانت "ناجحة"، وأن الوفد كان يسعى إلى مكاسب سياسية كثيرة.
لكنه يتحدث عن ضغوطات عربية وسياسية وأمريكية في سبيل إنجاح اتفاق "أوسلو"، لا مدريد.
وكانت المباحثات في مدريد تدور بخصوص عودة اللاجئين والأسرى والقدس وحائط البراق، بحسب ما يبين أبو مدين.
وترك اتفاق "أوسلو" قضايا القدس والمستوطنات والمواقع العسكرية لما سميت "مفاوضات الحل النهائي"، التي يقر رئيس السلطة محمود عباس أنه لم يحدث تقدم فيها منذ توقيع الاتفاق.
ويشير أبو مدين إلى أن الوجهة السياسية لعباس والوفد المفاوض في مدريد كانت الرئيس الراحل ياسر عرفات.
ودخل عرفات مرحلة المفاوضات مع كيان الاحتلال بموقف ضعيف دون دعم خارجي، وانتهز الأخير المكانة الضعيفة لمنظمة التحرير التي وصلت إليها بعد حرب الخليج، إذ أعلنت المنظمة خلال الحرب دعمها العراق في مواجهة الكويت، ما أضعف موقفها بعد هزيمة العراق عام 1991م.
ويؤكد أبو مدين أن الاحتلال استغل الاتفاق للحصول على مكاسب أكبر، والمفاوضات على أراضٍ أكثر.
ونص اتفاق "أوسلو" على نقل سلطة المدن والبلدات الفلسطينية في الضفة الغربية المحتلة وقطاع غزة من جيش الاحتلال إلى السلطة الفلسطينية التي شكلت حديثًا في ذلك الوقت، وهي عبارة عن هيئة انتقالية تشرف على الشؤون الأمنية الداخلية والإدارية في تلك المناطق.
ونتجت عن مفاوضات أوسلو اتفاقية ثانية وقعت عام 1995م، نصت على تقسيم الضفة الغربية المحتلة إلى ثلاث مناطق غير متجاورة: (أ، وب، وج)، ويسيطر جيش الاحتلال سيطرة كاملة على المنطقة (ج)، التي تشكل 61% من مساحة الضفة.
"لا دولة فلسطينية"
من جهته يقول المدير العام لمركز "باحث" للدراسات الإستراتيجية وليد علي: "كان لعباس دور خاص في الاتصالات، وهو الذي شارك في المفاوضات التمهيدية، وتلك التي أجريت قبيل توقيع اتفاق أوسلو".
ويبين علي لصحيفة "فلسطين" أن عباس كان له موقف يزعم أن الكفاح المسلح "غير مجد"، وأنه لا خيار إلا البحث عن التسوية، وكان هذا معروفًا في إطار اللجنة المركزية لحركة "فتح"، ولم يكن الخلاف بينه وبين أبي جهاد (خليل الوزير) وأبي إياد (صلاح خلف) سرًّا على أحد.
ويؤكد أنه لولا تخويل عرفات عباس الصلاحيات وموافقته؛ لما كان الأخير قادرًا على المضي قدمًا بهذا الاتفاق.
لكن علي يذكر في الوقت نفسه أن خلافات جرت لاحقًا بين عباس وعرفات قبيل حصار الأخير وفي أثنائه وعند وفاته، وأن الأخير أطلق على الأول أوصافًا، منها "كرزاي فلسطين".
وعن مباغتة وفد أوسلو وفد مدريد يقول علي: طبيعة "المشروع الصهيوني" أنه لا يريد أن يفاوض كلًّا، بل أن يجزئ المفاوضين ويصنع قنوات خلفية، ويحقق ما يريد لخدمة هدفه الإستراتيجي، وهو تغييب الشعب الفلسطيني".
ويتمم: "إن محصلة اتفاق "أوسلو" هي أن السلطة تتعاون مع العدو"، في إشارة إلى التنسيق الأمني بين الجانبين في الضفة الغربية.
ورغم فشل "أوسلو" لا يزال عباس يتمسك بهذا الاتفاق، فضلًا عن تشبثه بالتنسيق الأمني مع الاحتلال في الضفة الغربية.
وعباس الذي قال يومًا: "أنا ضد المقاومة علنًا" أقر في 20 أيلول (سبتمبر) 2017م خلال كلمته في الأمم المتحدة بنتيجة مساره في التسوية، قائلًا: "لم يعد هناك مكان لدولة فلسطين".

