عدّد إيهود باراك، رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق، بعضا من سمات ما سمّاها "حالة من التيه دخلتها (إسرائيل)"، والعوامل التي وصلت بـ(إسرائيل) إلى هذه الحالة، ويمكن اختصار تلك السمات والعوامل في كلمة واحدة هي "انحطاط القيادة"، ويمكن أن نشير إلى مصداق هذا الانحطاط بـ"بنيامين نتنياهو".
أمّا دلائل انحطاط نتنياهو، فأبرزها تفرّده، وهذا التفرّد تحديدا لا تحتمله دولة في وضع (إسرائيل)، ليس لأن نتنياهو يفتقر إلى الكفاءة التي قد تعوّض شيئا من نقائص التفرّد فحسب، إذ يرى باراك أن تفرّد نتنياهو لم يكن كافيا للتغطية على ارتباكه وضعف اتزانه، وإنما، المشكلة في جوهرها، في كون (إسرائيل) دولة غير طبيعية من كل وجوه وجودها وبقائها. فدولة هذا حالها، ولضمان تحسين آماد بقائها، لا بدّ أن تستند بالضرورة، إلى منظومة تعالج النقائص الفردية للقيادة، وتحتوي التدافعات الحاصلة داخلها، فكيف بـ"اللفيف" الإسرائيلي في قلب المحيط العربي، ومع تمسّك الفلسطينيين بقضيتهم؟! إنّ انحطاط نتنياهو يصير في هذه الحالة انحطاطا للدولة نفسها.
ثمّة ما لا تحتمله أيضا هذه الدولة، وهو إغلاق مساحات المناورة، هذا الذي يجري الآن بالضبط مع إرادة يمينية عجولة تسعى إلى تصفية القضية الفلسطينية بصورة تغلق أمام (إسرائيل) هوامش للمناورة، ويعود ذلك إلى تصاعد اليمين الديني والقومي، الذي يُعبّر عنه أحسن تعبير أمثال قتلة رابين، ومجموعات "تدفيع الثمن"، و"فتيان التلال"، والمتبعين لـ"شريعة الملك"، بهذا تتحول "إسرائيل" إلى مستوطنة تحاصر نفسها، وتسكنها الكراهية المنفلتة، وتنفي منها "قيم الليبرالية والديمقراطية".
في بعض تلك الوجوه، هذه هي (إسرائيل) في أصلها ومعناها، بيد أن باراك يخشى من انفلات ذلك بما يفضي إلى كشف المشروع الصهيوني، ثم تحطيمه، وهذا ليس من وحي رغباتي، ولكنها الكلمات التي اختارها باراك، أيْ "تحطّم المشروع الصهيوني"!
يمكن أن نتحدث عن تفرّد قيادة غير كفؤة، ومزايدات رخيصة تحكم الحركة السياسية الإسرائيلية، وتصاعد لليمين العنصري بما يزيد (إسرائيل) انعزالا، في وسط محيط معادٍ، هذا يعني في النتيجة تحطم المشروع الصهيوني.
ونضيف من عندنا إلى ذلك، عوامل خارجية لتسريع انهيار المشروع الصهيوني، ولكنّها غير منفكّة عن نتنياهو، ونعني بذلك حلفاء نتنياهو في المنطقة والعالم، ابتداء من ترامب وهبوطا إلى بعض الحكام العرب.. هؤلاء في القاع تماما من انحطاط القيادة، أي يشاركونه الاتصاف بالانحطاط القيادي. وإذا كانت "إسرائيل" دولة غير طبيعية في محيط معادٍ، وقد اصطُنعت في معاكسة للتاريخ والجغرافيا، فإن الطبقة القيادية المنحطة في المنطقة والعالم، تتصرف على الضدّ من حركة التاريخ وطبائع المنطقة وأهلها، وتسرّع بتصرفاتها من انهيارها، فلا المنطقة ساكنة، ولا العالم خامد، والغموض مطبق في لحظة سائلة تضج بالتحولات والاحتمالات والصدامات.
هؤلاء كلهم، أي نتنياهو وحلفاؤه في الإقليم والعالم، يضعون بيضهم كله في سلة ترامب، وترتبط مصائرهم ببعضها، وكأنهم حرفيّا "يخربون بيوتهم بأيديهم". فرهانات نتنياهو هي مقامرة في الحقيقة، فلا التصفية العجولة للقضية الفلسطينية ممكنة، ولا السعي في ذلك سيمكّن لـ(إسرائيل) أكثر بل العكس، ولا القوى التي تغطّي الحماقة الإسرائيلية دائمة، بل هي اليوم في أكثر حالاتها هشاشة وانكشافا، والمآلات التي يمكن أن ينزلق إليها العالم مريعة، ونتنياهو يربط مصير دولته بذلك كله.
وإذ كانت (إسرائيل) حمت نفسها خلال العقود المنصرمة كلها، بمنظومتها التي تحتوي نقائص ساستها وتناقضات تياراتها وجماعاتها، فإنّها لم تحم نفسها بقدرتها الذاتية، بل بالنظام الدولي الذي ستنعكس اضطراباته عليها، لا سيما مع حالة الانحطاط القيادي الذي تعانيه، وتصاعد القوى الأكثر تطرفا فيها، وسوف تكون أكثر عجزا عن معالجة نقائصها وتناقضاتها، وعن تجميل صورتها وهي تزداد انكفاء في صورة مستوطنة كبيرة تسكنها كائنات كريهة.. هذا ما تفعله (إسرائيل)، إنها تتحلل من أهم عناصر قوتها!
وإذا كان الأمر كذلك، فهذه قضيتنا، تفرض علينا تحديات مثيلة وشبيهة. وهذا عدونا، وإذا كانت عوامل انحطاطه في ما سلف بيانه، فالواجب أن نبدأ بالتخلص من مثيلاتها في قوانا وحركاتنا وفصائلنا، وهذا أهم ما يمكن أنّ نسرّع به بدورنا تحطيم مشروع عدونا، وأن نستعد به لانهيار ذلك العدو!