لم تتوقف القرارات الأمريكية الرامية للإجهاز على القضية الفلسطينية منذ أن وصل الرئيس الحالي دونالد ترامب إلى البيت الأبيض. ولا يبدو قرار إغلاق مكتب بعثة فلسطين في واشنطن هو آخر الإجراءات، فقد سبقته خطوات أشد قسوة، ولكن دلالته السياسية تعني شطب التمثيل السياسي الفلسطيني في الولايات المتحدة، ضمن خطة طويلة الأمد تطمح لإنهاء الوجود الفلسطيني في أغلب الدول إن لم يكن في العالم كله.
في أقل من 20 شهراً اتخذت إدارة ترامب سبعة قرارات مدمرة، بدأت بالاعتراف بالقدس عاصمة لـ(إسرائيل)، تمهيداً لنقل السفارة الأمريكية إليها، ثم تقليص المساعدات لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين "الأونروا"، قبل قطع المساعدات عنها نهائياً، وتلا ذلك قطع كامل المساعدات عن السلطة الفلسطينية، ثم وقف المساعدات الطبية لمستشفيات القدس، وصولاً إلى إغلاق مكتب منظمة التحرير. وبالتوازي مع هذه القرارات، كانت المواقف والتصريحات المستفزة تتوالى، ومنها حديث المندوبة الأمريكية في الأمم المتحدة نيكي هايلي عن 500 ألف لاجئ فلسطيني فقط، وليس أكثر من خمسة ملايين تؤكدها الأرقام والحقائق في المخيمات المنتشرة في الداخل والشتات ينتظرون العودة منذ سبعة عقود. أما الدعم اللامشروط للسياسات الاستيطانية ومشاريع التهويد التي تقوم بها سلطات الاحتلال، فقد تجاوز المنطق وحدود الحياء، ومع ذلك ما زالت هذه الإدارة تتحدث عن احتمال «إحياء السلام» وإيجاد «حل تاريخي» للقضية الفلسطينية.
محصلة هذه القرارات الجائرة والسياسة العدائية المستمرة، توحي بأن واشنطن الحالية قد وجدت «الحل التاريخي» بإنهاء الوجود الفلسطيني وإزاحة كل حقوقه ومطالبه المشروعة عن الطاولة في أي «مفاوضات محتملة»، حتى لا يبقى في الموضوع غير (إسرائيل) ومشروعها الاستيطاني التوسعي. وهذه هي الحقيقة التي تعمل إدارة ترامب على فرضها بوسائل الابتزاز والتهديد والتجويع والخنق، بينما وجدت (إسرائيل) نفسها في حِلٍّ من أي التزامات أو مسؤوليات. وربما أكسبتها المواقف الأمريكية مزيداً من الجرأة على الفلسطينيين، ناهيك عن بقية الحقوق العربية والإسلامية خصوصاً في مدينة القدس.
أمين سر اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير صائب عريقات، علق على القرار الأمريكي الأخير بقوله إن الهجمة التصعيدية الأمريكية ستكون لها عواقب وخيمة؛ لأنها تعمل على تخريب النظام الدولي من أجل حماية منظومة الاحتلال ومشروعه. وبالفعل، فقد بلغت الإدارة الأمريكية في تعاملها مع الشعب الفلسطيني وقضيته درجة عالية من التطرف والقسوة، بعدما حاولت الإدارات السابقة الحفاظ على الحد الأدنى من الحياد، رغم المؤاخذات العديدة والاعتراف بأن واشنطن هي الحامي الأكبر للاحتلال وعرابه الاستثنائي. ومع ذلك يبقى بعض الأمل في أن تعود الولايات المتحدة، وليس الإدارة الحالية، إلى رشدها في يوم من الأيام، خصوصاً في ظل التبرم الدولي من هذه السياسات التي أثارت استنكار بعض القوى الغربية، معتبرة إياها شاذة وغير عادلة.
أما عربياً، فقد جاء الموقف من وزراء الخارجية في القاهرة الذين أعربوا عن رفضهم للقرارات الأمريكية، مؤكدين استمرار الدعم لوكالة «الأونروا»، والتزامهم بحق اللاجئين في العودة وفقاً لكل المقررات الدولية. فالقضية الفلسطينية ليست قراراً أمريكيا، بل هي وطن لأهله وأرض مقدسة لأمتين وديانتين، لا يمكن للولايات المتحدة، مهما عظمت، أن تشطبها من الوجود.
قد تكون واشنطن تعمل لخلق واقع افتراضي لا ترى فيه إلا (إسرائيل)، بينما الحقيقة هي عكس ذلك تماماً. ومهما اشتد العسف والجور، لا بد للحق الفلسطيني أن يظهر يوماً ويسود ليطوي هذا الباطل الذي تجاوز حدود الأخلاق والمنطق والواقع.