دائمًا كان قريبًا من الموت وتوكل إليه المهمات الصعبة في تفكيك المتفجرات ومخلفات جيش الاحتلال الإسرائيلي، التي لم تنفجر خلال حروبه على قطاع غزة، فالقائد في كتائب القسام العقيد في هندسة المتفجرات بوزارة الداخلية عبد الرحيم أحمد عباس، الذي استشهد الأربعاء الماضي بانفجار في مكتبه في أثناء تجهيز عينات لإعطائها بدورة تدريبية في وزارة الداخلية؛ تمتع بعلم واسع وشجاعة وهدوء، كان يهجم على الموت ليخلص أبناء شعبه من آثار الموت والدمار خلال عمله بوزارة الداخلية منذ عام 2008م، وقبل ذلك في تطوير أدوات المقاومة مع القسام.
في بيت العزاء كانت الدموع تغطي الحروف، كلما حاول أحمد (13 عامًا) الكلام عن والده، تمالك نفسه ولملم بعض كلماته بعينين اكتستا بلون الحزن، لا ينسى ما حدثه به والده قبل ثلاثة أيام حينما أوصاه بالصلاة ومساعدة والدته والاعتناء بإخوته، وتلبية مطالبهم، وقراءة سورة الكهف كل جمعة وحفظ القرآن وأن يكون من الأوائل في دراسته، ترى هل كان يشعر أنه سيرحل؟
كان أحمد يرافق والده في بعض الأحيان ويراه وهو يفكك المتفجرات، كان الفتى الصغير لا يشعر بالخوف لأن والده كما يقول "قدها"، ليصمت وتنوب عنه الدموع في رواية القصة.
الصامت المتواضع
سرد الحكاية لم يتوقف، ليبدأ عبد الناصر عباس -وهو شقيق الشهيد- تقليب صفحات حياة شقيقه، إذ نشأ عبد الرحيم بمخيم الشاطئ وترعرع في مدارسها ومساجدها، وعندما أنهى تعليمه الثانوي التحق بالهندسة المدنية في إحدى الجامعات التركية، وعاد إلى قطاع غزة عام 2001م وعمل في هذا المجال ثلاثة أعوام قبل أن ينضم إلى كتائب القسام، ومن طريقه التحق بهندسة المتفجرات في الشرطة الفلسطينية.
ما زال شقيق الشهيد يقلب تلك الصفحات الناصعة والمليئة بالإنجازات: "كان عبد الرحيم لا يحب الظهور كثيرًا، يعمل بصمت، لا نراه كثيرًا لانشغاله في عمله بهندسة المتفجرات وعمله مع القسام، كان يعطي دوامه أكثر من حقه اللازم، حتى إنه استشهد الأربعاء الماضي بمكتبه في وقت غير وقت الدوام".
ما إن أشارت عقارب الساعة إلى الثانية ظهرًا حتى بدأ موعد انصراف موظفي وزارة الداخلية، لكن عبد الرحيم كعادته بقي في مكتبه حتى الرابعة والنصف عصرًا عندما حدث الانفجار، وكان يأخذ أبناءه معه في كثير من المواقع، إلا أنه في هذا اليوم شاءت الأقدار ألا يكونوا معه حتى لا يصابوا بأذى.
"أنا مش مطول" قالها الشهيد لمجموعة من أصدقائه قبل استشهاده بأيام قليلة، لعله كان حدسًا داخليًّا يشعر به.
ابتسامة دائمة
تميز الشهيد بالفكاهة والمزاح وحبه للرحلات العائلية والصيد، كان قد وعد ابنة شقيقه الشهيد القائد في كتائب القسام محمد عباس الذي اغتالته عام 2014م طائرات الاحتلال إيمان (17 عامًا) بالاحتفال بذكرى ميلادها، التي وافقت أول أمس الجمعة، لانشغال والدتها التي تعمل أكاديمية جامعية بدورة علمية في الخارج.
لكنه رحل واستبدل بالفرح الحزن، وستبقى ذكرى ميلاد إيمان تذكرها باستشهاد عمها بعد أن فقدت والدها الشهيد، ولدى الشهيد خمسة أبناء، وهم: أحمد (13 عامًا)، وأنس (12 عامًا)، وبتول (8 أعوام)، وسارة (4 أعوام)، وآمنة (عامان).
"الشهيد عبد الرحيم معروف بتواضعه وشمولية عقليته وتفكيره الإستراتيجي، كان حريصًا على تطوير العمل العسكري وأدوات الجهاد وآلة المقاومة، إذا ذكر التواضع والبساطة ذكر أبو أحمد عباس، كان هينًا لينًا قريبًا من الناس معروفًا بعلاقاته الاجتماعية"، وهذه المرة الكلام لرفيق دربه ماجد أبو مراد.
عرف أبو مراد عن رفيق دربه حسن الخلق والشجاعة والإقدام والمحافظة على صلاة الفجر بشكل حديدي، فيمكث يوميًّا حتى الشروق في المسجد، يتسلح بقلب قوي يهجم على الموت ليخلص أبناء شعبه من آثار الموت، كان دائمًا يبتسم، يتمنى أن يرزق الشهادة كي يلحق برفيق دربه في هندسة المتفجرات الشهيد حازم أبو مراد، قبل ليلة واحدة من الانفجار تحدث الصديقان واتفقا على لقاء قريب بطلب من عباس، لكن صديقه شاهده وهو ممد شهيد.
المدرب الأول
في هندسة المتفجرات بدأ الشهيد عباس عمله مديرًا لفرع هندسة المتفجرات بمدينة غزة، حتى وصل قبل استشهاده إلى منصب مدير العمليات والأمن في الإدارة العامة لهندسة المتفجرات، وكان له دور كبير خاصة بالتدريب وإعطاء المحاضرات في أي من مديريات وزارة الداخلية أو مديريات الشرطة، أو على مستوى إدارة الهندسة، لتطوير أداء أفرادها، وكان من العناصر الأساسية في هذا التطوير، يمتاز بعقله الواسع، بحسب قول مدير الإدارة العامة لهندسة المتفجرات بالشرطة الفلسطينية العميد جاسر المشوخي.
ويضيف المشوخي لصحيفة "فلسطين": "الشهيد عباس امتاز بالهدوء وعقله الذكي، لأن تفكيك المتفجرات يحتاج لدقة كبيرة ووعي وصبر، يحسب له أنه كان يقرأ ويبحث في علم الهندسة والمتفجرات وفي علوم أخرى ليصل إلى أفضل ما توصل إليه هذا العلم".
أخطر ما كان يقوم به الشهيد -وفق ما يذكر مدير الإدارة العامة- هو تفكيك الصواريخ من مخلفات الاحتلال، فمنذ عام 2008م حتى يوم استشهاده عمل في جمعها هو وزملاؤه وإتلافها ليزيل أحد أكبر الأخطار الحقيقية على المواطنين.