في أحد أيام العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة عام 2014م، تُحدث فريال أبو شمالة "أم عبد الله" زوجها القيادي البارز في كتائب عز الدين القسام محمد أبو شمالة: "لقد أذابت مشاهد المجازر قلبي.. أتمنى أن أخرج لأداء العمرة أو الحج معك أشعر وكأن قلبي يحتاج لعلاج"، ليرد عليها وكأنه يشعر بأحاسيس داخلية لقرب الرحيل "قد لا يشفى قلبك لسنة أو لعشر سنين من حجم ما رأيتيه"، وقبل استشهاده بلحظات قال لمن احتضنوه في بيتهم "أمنيتي بأن أحج مع أم عبد الله".
سيبقى 21 آب/ أغسطس يجدد جرحها، تسيطر تلك التفاصيل على تفكيرها، تحتل قلبها وكأنه احتلال حزن فرض عليه، تعود أبو شمالة (37 عامًا) لذلك اليوم وهي تراجع دفتر الذكريات في حديثها مع صحيفة "فلسطين": "رغم أنني كنت قريبة من مكان الاستهداف إلا أنني لم أسمع صوت الانفجار.. في عصر ذلك اليوم استيقظت بنتي الصغرى (3 أعوام) وهي تقول: "ماما؛ بابا مات" ورددت الجملة حتى ضربتها لأنني لا أريد سماع ذلك".
قبل استشهاد القادة الثلاثة بلحظات، وبعدما انتقلوا من بيت لبيت حدث الشهيد القائد في كتائب القسام رائد العطار رفيقيه محمد أبو شمالة ومحمد برهوم "احنا طالعين على شهادة"، فيما قال أبو شمالة: "لم نستشهد في (حرب) الفرقان، ولا في (حرب) السجيل، وحتى في هذه الحرب (العصف المأكول) يجب مراجعة أنفسنا يبدو أن في قلبي ذرة نفاق" فلم تمر لحظات حتى قصف البيت الذي كانوا يتواجدون فيه واستشهد الثلاثة.
تقاطع الدموع صوت "أم عبد الله" صمتت برهة من الوقت، استجمعت قواها ومسحت دموعها وواصلت: "لم يهن عليه أن يفارقنا، رحيله أكبر مصاب في حياتي، سُمعة أبو عبد الله التي تركها هي إرث أعظم من كل الآثار، وهي شرف يعيش معنا في كل مكان".
لكن قبل ثلاثة أيام من استشهاده رأت "أم عبد الله" زوجها، "كان مشرق الوجه، حدثني ورسم خارطة طريق لي للحياة بدونه في تربيتي للأولاد" كانت تدور تساؤلات داخلية في نفسها وهي تستمع لحديثه "ماذا يحدث؟، لماذا يتحدث هكذا، هل يعلم أنه هناك من يتتبعهم"، لكنه طمأن قلبها "أتمنى أن يرزقني الله بتوأم أولاد إن أعطاني عمرا".
بعد انتظار طويل
"خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي" شعار رفعه الشهيد أبو شمالة في حياته، اقتداءً بالنبي الكريم، أحد أصدقائه الذين زاروا العائلة قبل فترة وجيزة قال لزوجة الشهيد "حينما نذكر أبو عبد الله كأننا نتحدث عن رجل من عهد الصحابة"، فهذا القائد الذي تولى مناصب عليا في كتائب القسام كان الإنسان العطوف الحكيم المتفهم، تقول زوجته "كان يجتهد في اقتناص الفرص ليعوضنا عن الأيام التي يحدث فيها تصعيد أو في الأيام التي يغيب فيها عنا لمدة أسبوع أو أسبوعين".
بعد انتظار دام طويلا عام 2006م، بعد عملية أسر الجندي الإسرائيلي جلعاد شاليط، ولدت زوجة أبو شمالة ابنها "عبد الله" والذي جاء بعد ثلاث بنات، لا تنسى تلك اللحظات: "كان أبو عبد الله ينتظره بفارغ الصبر، ورفضت أن يؤذن أحد في أذنيه غير والده حتى لو طالت فترة غيابه عن البيت، فبعث رسالة بأن أسميه عبد الله، وبعد فترة جاء متخفيًا وأذن في أذنيه وفرح فيه كثيرا".
كانت تجهل أبو شمالة إلا بعد استشهاد زوجها أنه كان يساعد مرضى السرطان ويحضر لهم جرعات الكيماوي من مصر كونه مسؤولا عن الإمداد في كتائب القسام، "كان خفيف الظل، صاحب ابتسامة يحتوي الكبير والصغير، يكره النفاق والظلم والكذب ويحب إعطاء فرصة حتى للمخطئ".
لا تخفي "أم عبد الله" أن اسم زوجها الشهيد هو بطاقة لتسيير أعمالهم في أي مكان، "هو فخر لكل إنسان وفخر لفلسطين ومن أعظم رجالها" دائما ما كانت تسمع هذه الجمل.
لقد تزامن حلول عيد الأضحى في الذكرى الرابعة لاستشهاد أبو شمالة، وتجدد الحزن مرة أخرى ففي 22 أغسطس كان ذكرى ميلاد ابنته ربا، بنبرة صوت حزينة تقول: "كان العيد مؤلما، خاصة أن للشهيد ذكريات جميلة في العيد يضفي خلالها بهجة وفرحا، كان يستعد للعيد ويتأهب له مثل تأهب الأطفال، يفرح، لا يترك صغيرا ولا كبيرا إلا ويعيده في حيه، يلتف حوله الناس بمجرد نزوله من سيارته، يتفقده كثيرا أهل الحي إن انتقلنا من مكان لآخر".
توقفت عن الكلام مرة أخرى بدأ صوت الدموع ينوب عنها في الوصف، ما زال الجرح غائرا في قلبها، بصوت تكسوه الأحزان التي تزاحمت بين الحروف تكمل: "مضى أربعة أعوام على استشهاد أبو عبد الله، وكلما زادت المدة شعرت بالفقد أكثر، لكن عزائي بالتماسك لأجل أولادي".
محطات ومواقف
"كنت أعرف أنه مسؤول كبير في كتائب القسام دون معرفة تفاصيل عمله، وبمجرد خروجه من البيت كنت أستودعه الله، مع صوت كل صاروخ أو انفجار كنت أخشى أن يكون المستهدف، أو يأتي من يخبرني باستشهاده، في زواجنا كنت مسرورة بأن تقدم لي شخص مقاوم لأنها كانت أقصى أمنيتي الارتباط بإنسان مقاوم".
لكن وبعد أن تحققت أمنية ارتباطها بشخص مقاوم، لم تتخيل أن تصل المعاناة والمشقة إلى الخروج بمنتصف الليل من البيت حينما يحدث تصعيد، أو تنتقل من بيت لآخر، فكانت فترة ما بعد أسر "شاليط" أكثر فترة شعرت بها "أم عبد الله" بالقلق على زوجها، لكنها لم تعلم أنه المسؤول المباشر عن إخفائه.
ذات ليلة باردة، وبينما كان أبو عبد الله يقيم الليل ويدعو أن يرزقه الله الشهادة، التف فوجد زوجته تسمعه، نظر إليها قائلا: "أعلم أنك تتثاقلين من طلبي للشهادة، لكن لا يوجد أغلى من الجنة والشهادة وأنا لا أتمنى الموت على فراش"، لكن زوجها الذي تربى يتيما بعد وفاة والده وهو طفل لا يتجاوز العامين يقول: "أكثر شيء يؤثر بي أنت كيف ستعيشين بعدي؟ كيف ستفتقدينني؟ فأنا حزين عليك مسبقا".
"أم عبد الله" .. ينادي زوجها عليها قبل أن ينهي حواره "اليتم صعب وأنا تربيت يتيما، ويعز علي أن يتربى أولادي أيتاما لكن رضا الله أغلى"، ولدى الشهيد أبو شمالة أربعة أبناء وهم: عبد الله (12 عاما)، وربا (17 عاما)، وآية (16 عاما)، ونور (14 عاما)، وجنان (10 أعوام)، وأسماء (8 أعوام)، وهدى (5 أعوام).
تغوص "أم عبدالله" بين الذكريات مستذكرة: حينما تقدم لخطبتها أبو شمالة قائلة: "كان والدي يأوي المطاردين العطار وأبو شمالة، الجميع برفح كان يسمع عنهما، وحينما تقدم لخطبتي محمد شعرت بالفخر وكأنني ملكت الدنيا، كون القائد المطارد تقدم لخطبتي".
2 نوفمبر/ تشرين ثاني عام 2001م يوم زفاف أم عبد الله يمثل لها ميلادها الذي انتهى في 21 أغسطس 2014م باستشهاد زوجها "على أبو عبد الله فلتبك البواكي .. سأعيش من بعده لأكمل الأمانة ورسالتي مع أولادي" قالتها والدموع تقطر من صوتها مجددا.