يومًا بعد يوم، تزداد قناعة مسؤولين إسرائيليين كثيرين بأن مرحلة الانتصارات العسكرية الإسرائيلية قد انتهت، وأن المرحلة التي كان فيها جيش الاحتلال يقتحم، ويعدم، أو يختطف مواطنين فلسطينيين، من دون أن يدفع ثمنا كبيرا، قد أصبحت من الماضي، وأن سياسات (إسرائيل) منذ عقد ضد قطاع غزة، من حروب مدمرة، وحصار محكم خانق، وقطع للكهرباء، وتدمير لكل مناحي الحياة، قد فشلت في تحقيق أغراضها، المتمثلة في كسر الإنسان الفلسطيني، وإحباطه، ودفعه إلى القبول بما يُفرض عليه. وعلى الرغم من أن المصلحة السياسية الإسرائيلية تنسجم تماما مع الانقسام الفلسطيني الداخلي، واستمرار المناكفة ما بين سلطتي حركتي حماس في غزة وفتح في الضفة الغربية، إلا أن السنوات الماضية أثبتت لـ(إسرائيل) أن ترويض "حماس"، وإفشال فكرتها، ومشروعها، وصولا إلى استسلامها التام، يعتبر مستحيلا، حيث أصبحت غزة الصغيرة المحاصرة تشكل إزعاجا كبيرا ودائما لـ(إسرائيل)، ولجيشها، عبر ابتداعها أساليب ووسائل كفاحية كثيرة، من الطائرات الورقية الحارقة، حتى الصواريخ، ما فرض على (إسرائيل) التفكير والبحث عن وسائل جديدة، بعد أن شكل ذلك إحراجا وإهانة لها، والذي تفهمه (إسرائيل) انهيارا في منظومة الردع، وهذه أهم ركائز العقيدة الأمنية والعسكرية الإسرائيلية، ولذلك تجري منذ فترة مفاوضات للتهدئة، برعاية مصرية، وأطراف دولية أخرى.
على الصعيد السياسي، أصبحت غزة وحروبها، حصارها، معاناة أهلها والمقاومة فيها، السبب الرئيس في إبقاء القضية الفلسطينية حية في الحراك الإقليمي والدولي، بعد أن كادت هذه القضية تغيب وتختفي، بفعل الأحداث الكبيرة التي تضرب المنطقة والعالم، وطالما أن مصلحة (إسرائيل) في تغييب القضية الفلسطينية وإسقاطها، للاستمرار في مشروعها الأكبر، أي التحالف مع الدول العربية، بعد اختلاق ما يسمّى الخطر الإيراني على الدول العربية. وقد قال رئيس الحكومة الإسرائيلية، بنيامين نتنياهو: إن العداء المشترك مع إيران فتح أبواب (إسرائيل) أمام دول عربية كثيرة، وأن تهدئة الأمور في غزة ستخرج الاتصالات العربية الإسرائيلية من السر إلى العلانية، حيث إن القضية الفلسطينية لم تعد الناظم أو المحدّد لعلاقات بعض الأنظمة العربية مع (إسرائيل)، حسب مزاعم نتنياهو، وخصوصا السعودية.
على الصعيد العسكري، وما دامت (إسرائيل) باتت مقتنعة بأن الحرب على غزة لم تعد نزهةً بسيطةً، خصوصا في ظل عدم استكمالها بناء الجدران المحيطة بالقطاع، البحري والأرضي، وفي ظل تعاظم الخطر والتهديد الكبير على الجبهة الشمالية، وخصوصا في الاستعداد لمواجهة، قد تتطوّر إلى حرب كبيرة لمنع إيران وحلفائها من إقامة بنية عسكرية في سورية، حيث أصبحت هذه القضية القاسم المشترك بين كل المؤسسات الأمنية والعسكرية والسياسية للحيلولة دون إعادة تكرار نموذج حزب الله في لبنان، وحركتي حماس والجهاد الإسلامي في غزة. لذلك ومن أجل التفرغ لاحتمالات التصعيد في الشمال، باتت (إسرائيل) معنية بالتهدئة على جبهة غزة، والعمل على تحييدها، بعد أن كشفت أحداث الشهور الماضية، من مسيرات العودة، والطائرات الورقية والبالونات الحارقة، أنها قادرة على استنزاف (إسرائيل) وجيشها، وإشغالها، وتشتيت قواها في أية مواجهة قادمة، في ظل رفض قيادة الأركان العسكرية الإسرائيلية شن حرب على غزة بسبب الطائرات الورقية، لما لذلك من أثر سلبي كبير على سمعة الجيش الإسرائيلي، وصورته وهيبته، وهو الذي قيل عنه يوما إنه الجيش الذي لا يقهر، وذلك عندما تغير طائرات إف 16 الإسرائيلية لمواجهة طائرة ورقية أطلقها طفل غزّي.
على الصعيد الحزبي الداخلي، ومع اقتراب موعد إجراء الانتخابات السياسية العامة في (إسرائيل)، في شهر نوفمبر/ تشرين الثاني من العام المقبل، ولكن وفي ظل احتدام الأزمة الحزبية بشأن قانون التجنيد، ورفض التيارات الدينية الحريدية للقانون، كما استمرار التحقيق مع نتنياهو بتهم الفساد والرشاوى، والخشية من تقديم لائحة اتهام ضده قريبا، ما ستؤدي إلى زيادة الضغط عليه من أجل الاستقالة، وعدم الترشّح ثانية، فمن الممكن أن يحل نتنياهو الكنيست، ويدعو إلى إجراء انتخابات عامة مبكرة تنتظم في بداية العام المقبل، لتمكينه من الترشّح قبل توجيه لائحة اتهام ضده. كما أن تحذيرات المستويات العسكرية والأمنية في (إسرائيل) من أن حربا على غزة قد تنتهي، في أحسن أحوالها الإسرائيلية، بلا غالب أو مغلوب، لا بل هنالك تحذيرات من أن حركة حماس أصبحت تمتلك أسلحة قادرة على إيقاع خسائر بشرية ومادية كبيرة. لذلك، وبعكس معظم الانتخابات الإسرائيلية السابقة، حين كانت الحكومة تفتعل حربا قبلها لأسباب انتخابية، ولإعادة طرح موضوع الأمن، والخوف على النقاش العام ، كما حدث مع قصف المفاعل النووي العراقي في عام 1981 في ظل حكومة الليكود برئاسة مناحيم بيغن، وحتى انتخابات عام 2015، حين سبقتها حكومة الليكود الحالية، برئاسة بنيامين نتنياهو بعدوان مدمر على غزة صيف 2014.
على الرغم من الانطباع الكبير بأن المنطقة مقبلة على تهدئة، بين (إسرائيل) وحركة حماس ومعها فصائل المقاومة الأخرى، إلا أنها تهدئة لن تستمر طويلا، ما لم يتم التوصل إلى صفقة تبادل تعيد فيها "حماس" الجنود الإسرائيليين الأسرى لديها، والذين يشكل احتجازهم إحراجا كبيرا لرئيس الحكومة نتنياهو، ويفرض عليه العمل على إطلاق سراحهم، لكنه غير قادر على قبول مطالب "حماس" بإطلاق سراح مئات الأسرى الفلسطينيين، وإعادة تكرار صفقة تبادل الأسرى قبل سنوات مقابل إطلاق سراح الجندي الإسرائيلي جلعاد شاليط. وفي الوقت نفسه، هو غير قادر على الاعتراف، أمام المجتمع اليهودي، بأن الجنود لن يعودوا إلى عائلاتهم، والأكثر أهمية من ذلك أن معظم الدوائر الأمنية والاستخباراتية ومراكز البحث العلمي في (إسرائيل) تحذّر من أن التوصل إلى تهدئة طويلة مع حركة حماس، تسمح للحركة بإعادة ترميم القطاع، والتخفيف من مشكلات المواطنين الفلسطينيين هناك سيعتبر انتصارا لحركة حماس من دون الاعتراف بإسرائيل، والذي سيتم تفسيره رضوخا إسرائيليا للمقاومة الفلسطينية، وأن (إسرائيل) لا تفهم سوى لغة المقاومة، ولا جدوى بالمفاوضات معها، ما سيعمّق ثقافة المقاومة في المجتمع الفلسطيني، وسيمثل تراجعا للتيار المتمسّك بالمفاوضات، ولا سيما السلطة الفلسطينية وحركة فتح، الأمر الذي قد يؤدي إلى انهيار السلطة، ما سيفتح المنطقة على خيارات صعبة.