ماذا بقي لنا للتعويل عليه بعد أن جمدت إدارة الرئيس ترامب كل المساعدات المالية الأميركية المقدمة للسلطة الفلسطينية سوى تلك المخصصة لأجهزة أمن السلطة بالضفة، في حين امتنعت عن الإفراج عن الأموال التي جمدتها في بداية العام الحالي لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا) (قدمت 60 مليونًا من أصل 160 مليونًا مخصصة للنصف الأول من عام 2018م، تحت ذريعة أن الوكالة تحتاج إلى إصلاح الذات)؟!، والسؤال الذي يطرح نفسه: هل هذه العقوبات التي فرضتها واشنطن على الفلسطينيين بسبب رفضهم صفقة القرن، أم بسبب اقتناعها بفشلها؟، أجل، إدارة الرئيس ترامب تشعر بإحباط كبير تجاه احتمالات إطلاق مبادرتها لتسوية الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، على وفق الخطة التي أسمتها صفقة القرن، وإنها "باتت شبه مقتنعة بأن خطة الرئيس ترامب المتعثرة وصلت إلى طريق مسدود، وأصبح من الصعوبة بمكان -إن لم يكن مستحيلًا- إطلاقها في الوقت الراهن".
صحيفة "واشنطن بوست" تقول نقلًا عن مصدر مطلع: "لذلك يعمل مستشاروه (الرئيس ترامب): صهره جاريد كوشنر، وجيسون غرينبلات (مستشاره للمفاوضات الدولية) على صياغة صفقة أكثر تواضعًا من صفقة القرن، لمعالجة الأوضاع الإنسانية المأسوية في قطاع غزة، ولكنها مهمة وحساسة، إذ يتفق الجميع -ومنهم (إسرائيل)- على أن غزة على وشك الانهيار بعد سنوات طويلة من الحروب والحصار والتشاحن الفلسطيني- الفلسطيني، وأن عواقب انفجار هذه الأزمة الإنسانية المخيفة ستطال حلفاء الولايات المتحدة في (إسرائيل)، وربما مصر، وتزيد من التعقيدات المتفاقمة حاليًّا".
المقصود من الكلام أعلاه ليس التقليل من شأن التحديات والمخاطر الكبيرة التي تحملها خطة صفقة القرن الأمريكية لتصفية القضية الفلسطينية، بل تأكيد كما ينبغي أن تحديات ومخاطر هذه الخطة إنما تحمل في ثناياها أيضًا استنفار كامن طاقات الشعب الفلسطيني، واستفزاز قواه الحية، وتوتير قوسه، مصداقًا لما أثبتته تجربة قرْن من الصراع، إذ ظل التراجعُ يستدعي التقدم، والجزْرُ يستحث المدَّ، اتصالًا بأن كل شيء ينطوي على نقيضه.
الكيان العبري يقول شيئًا ويفعل عكسه، وعلى ما يبدو ما زال كما وُلِد، يعيش في مأزق نظامه الاستعماري الاستيطاني العنصري الإلغائي الإحلالي، القائم على فرضية أن الحروب وفرض الحقائق على الأرض يخلقان واقعًا سرعان ما يُعترف به، قال يغال آلون (وهو أحد أكثر قادة الاحتلال تعلقًا بهذه الفرضية الخائبة)، بعد شهر على هزيمة الـ67: "لو أن (إسرائيل) سمحت لجيشها عام 49 باحتلال كامل الضفة الغربية؛ لما كان يخطر ببال أحد الآن أن يدّعي ضد حق (إسرائيل) في البقاء بالمدينة القديمة، أو الخليل، أو نابلس»، وفي السياق يقول أرسكين شليدر في كتابه "تهويد فلسطين": "إن الاستيلاء على الأرض وطرد السكان ليسا ناجمين عن طبع شرير عند اليهود، بل مِن مقتضيات إقامة الكيان اليهودي الذي ما كان ليقوم إلا بأرض أكثر، وعرب أقل".
أما جذر مأزق الكيان الدائم، وسؤاله الموجع المفتوح فنجدهما في ما أعلنه عام 1919م (بعد عامين على صدور «وعد بلفور») حاييم وايزمان، رئيس «المنظمة الصهيونية العالمية» آنذاك: «عندما أقول وطنًا قوميًّا يهوديًّا أعني خلق أوضاع تسمح بإدخال العدد الوفير من المهاجرين اليهود إلى فلسطين، حتى تصبح يهودية كما هي إنجلترا إنجليزية، وأمريكا أميركية». هذا يعني أن خطة «صفقة القرن» الأمريكية إن هي إلا محاولة فاشلة لفرض حلٍّ يتبنى كامل ما أراده مؤسسو «المنظمة»، ونفذته بالقوة بدعم استعماري «غربي» مطلق حكومات الكيان المتعاقبة منذ إنشائه.
بل منذ إحياء «الحركة الصهيونية» والدول الاستعمارية «الغربية» «وعدًا إلهيًّا» مزعومًا، لتمرير «وعدٍ دنيوي» استعماري مشؤوم، أعطى طائفة دينية يتوزع أتباعها كما أتباع كل طائفة دينية على دول قومية مختلفة مكانة شعب يستحق دولة، وأنكر وجود شعب قائم وحدت «المواطنة» مكوناته، كأنه شعب زائد، أو مجرد طوائف تستحق التمتع بـ«حقوق مدنية ودينية». وبالنص يقول «وعد بلفور»: «إن حكومة صاحب الجلالة تنظر بعين العطف إلى إقامة وطن قومي في فلسطين للشعب اليهودي، وستبذل غاية جهدها لتسهيل تحقيق هذه الغاية، على أن يفهم جليًّا أنه لن يؤتى بعمل من شأنه أن ينتقص من الحقوق المدنية والدينية التي تتمتع بها الطوائف غير اليهودية المقيمة في فلسطين....»، هنا نعثر على مصدر هذا الصراع الوجودي، الذي لن تحله خطة «صفقة القرن»، بل تعمقه، ومأزق الكيان العبري البنيوي وسؤاله المفتوح.
خلاصة القول: إن الإدارة الأمريكية أصبحت اليوم ليست فقط منحازة إلى الكيان بل حلت محله علنًا، دون مواربة، كما كانت سياستها في السابق الكيل بمكيالين حين تدافع عن جرائمه بحق الشعب الفلسطيني، تعد غزة أولًا من الناحية الإنسانية "كلمة حق يراد بها باطل"، فهل صحيت الإدارة الأمريكية الآن من فعلتها طوال اثني عشر عامًا من الحصار؟!، ولماذا تذكرت غزة الآن؟!، هل هذا الإحسان من أجل الانتخابات الأمريكية، أم أن اللعبة قد انكشفت وما بقي لواشنطن إلا إعلان أن صفقة القرن "إكس بير"؟