ظاهرة استوقفتني مؤخرًا باستغراب شديد، طفل لم يتجاوز الثماني سنوات يحمل في حقيبته المدرسية خمس سجائر!
حاولت البحث عما وراء السجائر الخمس والسادسة العالقة في جيبِ سرواله من خلال القيام بمهمة صحفية تقتضي عمل تقرير عن الظاهرة، فتبين أن الطفل ليس حالة نادرة أو ظاهرة غريبة بل قد يكون جزءًا من واقع متداول بشكل طبيعي في مجتمعنا.
تختلف الأسباب وتتنوع المبررات التي قد يقدمها طفل بعمره نتيجة إقدامه على فعلٍ كهذا, منها القوي والواقعي والمعروف فيما لم تتسم ردود أفعال الأهالي تجاه هذه الظاهرة ولم تتخلص إلا في كلمة واحدة هي "ساذجة" سواء كانت قوية أو ضعيفة.
فما هال غرابتي إلا أب يرى مشهد طفله أمامه وهو يحاول إعادة سحب الدخان من بقايا سيجارة أبيه والأخير ينظر إليه ضاحكًا ومُشجِعًا على تلك المهارة الجديدة التي اكتسبها ابنه من الحياة! وما يزيد الطين بلّة هو أنه يكون سعيدًا بالأمر كأن صغيره أصبح لاعِبًا للقوى أو تلقى وسام البطولة في رياضة الكرة مثلًا..
وآخر تراه مدخنًا منذ عقود وينهى أبناءه عن التدخين، أتساءل أيها الأب العظيم: عندما يراك طفلك تخرج آخر شواقل من محفظتك؛ لتشتري فيها علبة دخان وتطلب منه أن يُحضر إليك الولاعة ويشعل لك سيجارتك العالق طرفها في فيكِ ثم يلملم بقايا سجائرك المبعثرة دون أن يعبث بها، ماذا تتوقع منه أن يفعل؟
إن أبسط ردة فعل ممكن أن يقوم فيها الصغير هي تقليده إياك كمحاولة للاقتداء بك فأنت أبوه الحبيب وقدوته، ثم تنصحه بعد ذلك بسنوات بكل سذاجة: "يا بُني إنها مُضرة لا تحاول تجربتها ويا ليتني أستطيع الإقلاع عنها"! كيف يُمكن لفتى مراهق يحاول تجريب كل جديد في الحياة أن يقتنع بكلماتك البالية تلك!
وبعضهم يرى في الأمر رجولة! كأن علامة الجودة التي تُكسب الفتى صفة الرجولة هي التدخين، يبدو الأمر أكثر من تافِهٍ في الحقيقة، تسأل فتى في الثانية عشرة من عمره لماذا تُحاول التدخين فيجيبك: "ما المشكلة؟ إن أبي وجدي مدخنان.." كأنها صفة وراثية مكتسبة في العائلة!
لتعلم أيها القارئ العزيز أن المسؤولية كاملة تقع على كاهل الأسرة، هذه المدرسة الأولى التي تعلم الأبناء أهم الأسس الحياتية في المجتمع ككل، لكن إذا كانت الأُم مطلقة أو تعمل خادمة في البيوت من مطلع الصباح حتى غروب الشمس، والأب إما يُعاني مرضًا نفسيًا يُقيم ثلثي عامه في مستشفى الصحة النفسية أو عاطلًا عن العمل يتسكع في الزقاق مع رفاق السوء ليلًا ويقضي النهار نائمًا.
أما وقد تبدو إليك الصورة من خلال حديثي أن الظاهرة تختص في الأسر الفقيرة أو في تلك الأحياء الشعبية فإن الأمر ليس كذلك مطلقًا، حيث يرى المدخنون من الزاوية المقابلة لهذه أن في الأمر حرية, فمن الجميل ألا ينتهك حق طفله في المغامرة والحرية وتجريب الأمر حتى لو كان ضارًا أو محرمًا أو سلبيًا إلى أن يعرف من نفسه مدى خطورة الأمر ويتركه إن رغب بحسب اعتقادهم.
ومِن الآباء مَنْ يرى في تدخينه هو نوعًا من البريستيج، غير آبهٍ للصورة التي ترسخ في ذهن أطفاله عن الرجل الراقي وبيده السيجارة، التي تمسح من فكره أضرار التدخين وتحريمه وآثاره السلبية ولا تشير إليه إلا بأنه تعبير عن الرُقي والرفعة والمنزلة السامية، وفي الحقيقة ما هو إلا نوع من أنواع الإدمان المُمرِض.
في النهاية عليكم جميعًا أن تعوا هذه الحقيقة الواضحة كالشمس, أن التدخين هو أحد أشهر وأهم وأكبر أنواع الإدمان بالعالم وأن عدد المدخنين في قطاع غزة نحو خُمس عدد سكان القطاع كافة كما أن غالبية المدمنين هم مدخنون في الأساس جرهم التدخين إلى وحل الإدمان.