يمكن تلخيص ما وصلت إليه القراءة في خيارات نتنياهو بأن السعي إلى الهدوء بخيار التهدئة إن لم يتحقق فلن يكون خيار الحرب بديلًا، ففي الدعوة إلى انتخابات مبكرة ضمانة عودة له لتشكيل حكومة جديدة.
المستوى السياسي في كيان الاحتلال يعيش في حالة من التضارب والتناقض، ما جعل نسبة عدم رضا الجمهور عن أدائه تصل إلى ٦٤%.
وإطلالة على القطب الأبرز الذي يمثله نتنياهو رئيسًا للحكومة، وزعيمًا للائتلاف الحاكم، وشخصية مازالت متصدرة المشهد السياسي، بفارق كبير وفقًا لكل استطلاعات الرأي.
مسيرة العودة كسّرت التجمد وأنهت الجمود
يرى هذا القطب مراوحة المكان بما كان قبل ٣٠ آذار ٢٠١٨م -أي ما أفرزته حرب ٢٠١٤م- حالة مثالية سعى ويسعى إلى تثبيتها، غير أن أمرين أخذا يتجاوزان هذا الواقع وبات جزءًا من الماضي، الأول مسيرات العودة المتصاعدة في تأثيرها وأثرها، وقد فتحت الباب واسعًا لكل الاحتمالات ولجميع الخيارات.
والأمر الآخر هو من استحقاقات حرب ٢٠١٤م، وهنا أتحدث عن الأسرى والمفقودين من جنود الاحتلال، فأصبح الحديث عن هذا الملف في تزايد مطرد، ولاسيما عند الحديث عن التهدئة لمعالجة فعاليات وتفاعلات مسيرات العودة، إذ يضغط ذووهم باتجاه أن يكون ملف أبنائهم في مقدمة أي صفقة سياسية، وإلا فإن مصيرهم سيكون في مسار الطيار أرون أراد.
وبذلك يكون مصير التهدئة مرتبطًا بالأسرى، وإلا واجه هذا القطب الأبرز معضلة أخلاقية كبيرة قد تودي بمستقبله السياسي، ولا يخفى أن قطبًا في الحكومة على رأسه وزيران -وهما: بينت وشاكيد- يدعم هذا الاتجاه.
لكن، ما الذي يمنع الربط بينهما (الأسرى والتهدئة)؟
الثمن الذي تُصر حماس عليه مقابل الكشف عن مصير أولئك، فضلًا عن الإفراج عنهم، وهو ما تراه حكومة اليمين ثمنًا كبيرًا ومكلفًا قد يمنعها من التجاوب مع استحقاقاته، في ظل حكومة تتكون من هذا الخليط المتطرف.
وزيادة على ذلك إن حماس إن كانت مصرة على عدم الربط بين استحقاقات التهدئة، والأسرى، كون لكل منهما مسار منفصل؛ فإن الفصل لا يمنع التوازي بين المسارين.
ثم إن حماس مازالت تصر على الحد الأدنى للتهدئة، وذلك ما يضمن حرية الحركة للأفراد والبضاع (من وإلى) بممر مائي وآخر جوي، وإن بمراحل زمنية، وضمان بقاء فتح المعابر مع بقية فلسطين المحتلة، فضلًا عن معبر رفح الذي يكون الحديث فيه مع مصر صاحبة سيادة، وأيضًا إعادة الإعمار، وتأهيل البنى التحتية، وضمان توريد وتوليد الطاقة للقطاع.
وهذا فضلًا عما يجده كيان الاحتلال سقفًا مرتفعًا إنه يضع أيضًا أمامها استحقاق عودة السلطة التي مازالت تضع كذلك اشتراطات، تجد حماس في أقلها ما يحبط معنى الشراكة المقصودة أساسًا من عملية المصالحة، إضافة إلى تمسّك السلطة بإجراءاتها العقابية لغزة، وامتناعها عن تقديم أية بوادر إيجابية يمكنها خلق أجواء صحية.
وهذا ما يجعل فصل مسار المصالحة عن التهدئة قائمًا، وهو ما يجد فيه كيان الاحتلال "فرصة وإشكالًا" في الوقت نفسه.
فالفرصة تكمن في إبقاء حماس تحت ثقل العبء المدني، الذي هو نفسه ما يجعلها ملتزمة وملزمة بتحمل المسؤولية الأمنية عن أي اختراقات للتهدئة.
ولكن الإشكال في تجاوز السلطة التي مازالت تقدم خدمات أمنية عالية لمصلحة الكيان، بلا مقابل غير تعهد الكيان بحمايتها وإمدادها بأموال المقاصة، التي هي أموال جباية ضريبة على الواردات التي تدخل مناطق السلطة، ومنها غزة، ويأخذ الكيان مقابل تحصيلها ١٧% منها، أي (٣% من ١٧%).
الخيار المقابل (الحرب العدوانية)
في مقابل كل هذه التعقيدات أمام سعي كيان الاحتلال إلى التهدئة وما يمكن أن تتطور إليه من هدنة سنوات يمكن أن يكون لخيار الحرب محل من الاعتناء والاعتبار، وهو الكيان الذي لم يُغيب هذا الخيار يومًا من أجندته، ولكن كان -ولا يزال- الأمر يطرح لبحث جدواه لا إمكانيته؛ فهو قائم في "دولة" قائمة بالعدوان.
لكن جدوى هذا الخيار في التعامل مع غزة لعودة التهدئة مشكوك فيها، بل الخشية من خسائر كبيرة بلا جدوى، ولاسيما أن حربًا كبيرة لم يمض عليها غير أربع سنوات مازالت عالقة في الذاكرة بكل ما يؤلم، وما كان من حديث عن الردع فقد غار بعيدًا في نفوس شعب يقاتل من أجل حريته، فليس بعد الحرية ثمن غالٍ عليها.
ثم إن حربًا على غزة قد تنسف جهودًا كبيرة، قطع بها كيان الاحتلال مسافات هامة حتى أصبح يقف على رأس محور إقليمي يقود دولًا وازنة، ويضعه خيار العدوان في مواجهة مباشرة مع شعوب تلك الدول المتحالفة، فضلًا عن دول وشعوب المحور الآخر الذي كثف فيه العداء.
لكن هذا الخيار العدواني يجده قطبا الحكومة الآخران فرصتهما للبقاء في المنافسة في أي انتخابات قادمة: القطب الذي أشرنا إليه سابقًا في حديثنا عن ملف الأسرى، والقطب الثالث الذي يتمثل في وزير الحرب أفيغدور ليبرمان.
المخرج
غير أن هذا الخيار -وإن كان مدعومًا بتوجه شعبي ضاغط- ليس ملزمًا لرأس الحكومة (نتنياهو)، فإن كان يجد ٤١% أنه لا ضرورة لهذا الخيار، أي الحرب، مقابل ٤٨% يرونه خيارًا؛ فإن ٧% لا تشكل فارقًا كبيرًا يلجئ إلى مخاطرة قد يراها مقامرة بكل مستقبله السياسي.
لهذا سيجد نتنياهو طريقًا آخر آمنًا يضمن مستقبله، إن لم تتحقق التهدئة، وذلك بالدعوة إلى الانتخابات المبكرة، قد يكون بطرحه قانون التجنيد للتصويت، الذي من شأنه جعل الائتلاف في حكم المنحل نتيجة معارضة الأحزاب اليمينية الدينية.
وإلى حين حسم الخيارات سيبقى الوضع يراوح بين تصعيد وتهدئة مؤقتة، مع استمرار فعاليات مسيرة العودة.