كان أمراً لافتاً بالفعل أن تتعمد قوات الاحتلال تدمير مركز ثقافي في غزة ينشط في مجال تخصصه منذ عام 2003 ويشكل متنفساً لأبناء القطاع. ولم يحدث أن استضاف «مركز سعيد المسحال» أنشطة ذات طابع سياسي أو اجتماعات تتعلق ببرامج غير مدنية، والهدف «الإسرائيلي» وراء اقتراف هذه الجريمة هو طمس مظاهر التمدن في القطاع، وحرمان أبنائه من فرصة تذوق ثمرات الفكر والفن، بما يشكل تشديداً للحصار البري والبحري والجوي، وبحيث تنتقل مفاعيل الحصار إلى الداخل بتضييق فرص التنفس وحرمان الناس من أبسط المباهج الوجدانية.
معلومٌ أن الاحتلال ينشط لتسويق صورته في مجالات السينما والفنون والموسيقى والغناء والنشر وفي معارض الكتب العالمية، وذلك بغية التأثير على الرأي العام في كل مكان وإعادة تشكيله بما يخدم الأكاذيب اليهودية. وعليه فإن ضرب الصورة الثقافية للرازحين تحت الاحتلال يمثل حلقة متقدمة من محاولات طمس الهوية الوطنية والحضارية للفلسطينيين.
المركز المستهدف والمكون من خمس طبقات لا يتبع للسلطة الفلسطينية ولا للفصائل، بل هو مركز أهلي مستقل، ويستضيف مكاتب لمراكز ثقافية في القطاع منها مركز ثقافي مصري. وقد تبرع بإنشائه رجل أعمال غزي هو سعيد المسحال وقد حمل المركز اسمه تقديراً لعطاء الرجل. ومن المثير للسخرية أن سلطات الاحتلال في محاولاتها لفرض الهدوء التام على القطاع، قد تحدث مسؤولوها مراراً في الأسابيع الأخيرة عن استعداد مزعوم لتحسين مستوى الحياة في القطاع، والمقصود تخفيف الحظر عن إدخال سلع أساسية منها مواد البناء. لكن اللؤم «الإسرائيلي» سرعان ما أطل برأسه حيث جرى استهداف أحياء سكنية وبلغ إحدى ذرواته بتدمير مركز ثقافي رئيسي ما أدى إلى إصابة 24 شخصاً بينهم أربعة أطفال.
التقارير التي أوردتها صحف «إسرائيلية» خلال الأيام القليلة الماضية أفادت أن اللجوء لتدمير المركز جاء بديلاً لخطة هجوم واسع اقترحها وزير الحرب افيغدور ليبرمان، وقد تم رفض الخطة من الجيش والمجلس الوزاري المصغر، وذلك مخافة وقوع خسائر بشرية كبيرة في صفوف الجنود، والاحتمالات القوية بوقوع عدد منهم في الأسر. .
وفي المحصلة فإن قطاع غزة بقي عصياً على الاجتياح، وتبادل الطرفان أنشطة الردع العسكري، والهدنة التي تم الإعلان عنها تعكس حاجة الطرف «الإسرائيلي» لوقف إطلاق الصواريخ. أما المقاومة الشعبية بما فيها مسيرات العودة فقد بقيت خارج الاتفاق وبعيداً عن المناقشة، وكانت مصر ومبعوث خاص للأمم المتحدة ( نيكولاي ملادينوف) قد توليا مهمة استكشاف فرص التهدئة وتنظيم التفاوض غير المباشر بين الطرفين، وقد أثمرت هذه الجهود بالفعل، وقد شاءت قوات الاحتلال أن تكون لها الكلمة الأخيرة ( الضربة الأخيرة) وقد اختارت مركزاً لعرض المسرحيات والحفلات الفنية كهدف لها، ما يعكس ذخيرة الكراهية «الإسرائيلية» لمظاهر الحياة والتفتح الإنساني لدى الرازحين تحت الحصار، وذلك خلافاً لما تدعيه سلطات الاحتلال بأنها تستهدف فصيلاً بعينه، وهو ما تجاريها واشنطن فيه. فالحصار المشدد ينوء تحت وطأته أكثر من مليوني نسمة هم سكان القطاع، وهو سابق على تصدّر هذا الفصيل أو ذاك للحياة العامة في هذا الجزء الحيوي من فلسطين، وحيث أدى قيام الكيان عام 1948 إلى فصل قطاع غزة عن بقية الأراضي الفلسطينية وبالذات عن الضفة الغربية المحتلة.
وهذا هو سر الوضع الخاص للقطاع، الذي يحتفظ بمنفذ بري واحد مع العالم الخارجي من خلال معبر رفح على الحدود مع مصر، فيما يسيطر الاحتلال على المياه الإقليمية لغزة في البحر المتوسط الذي يقع القطاع على ساحله، فضلاً عن السيطرة على المجال الجوي، وكانت قوات الاحتلال قد اعترضت على إنشاء ميناء ومطار في القطاع، وذلك في إطار سياستها لتشديد الحصار.
لقد امتد اللؤم «الإسرائيلي» لارتكاب جريمة حرب جديدة تمثلت هذه المرة في قصف مؤسسة ثقافية أهلية بتسعة صواريخ.