لم يتخلف عن المشاركة في مسيرات العودة وكسر الحصار ولو لجمعة واحدة، كان يزاحم المشاركين في الصفوف الأُوَل. "اللي كاتبه ربنا بصير".. كان هذا رد الشهيد أحمد يحيى ياغي (25 عاما) على والديه في كل جمعة فيها يحاولان إقناعه بعدم المشاركة بالمسيرات خوفا من تلقي نبأ استشهاده، لكن والده اليوم يعترف وهو يرفع رأسه ويضع يده على صدره "كنت أنهاه لكنني فخور بما قدمه لأجل الوطن، ولو أراد إخوته الستة السير على طريقه فلن أمنع أحدًا منهم".
في مراسم بيت العزاء، كانت عينا والد الشهيد تخفي حزنًا كبيرًا وهي ترسم لوحة من جراح. ولا يخفي في حديثه مع صحيفة "فلسطين" أن العائلة كانت متوقعة تلقي نبأ استشهاد أحمد وقتله من قبل قناصة الاحتلال، لأنه يشارك في كل جمعة من مسيرات العودة ويتقدم الصفوف الأمامية للمتظاهرين وهي أكثر الصفوف عرضة لنيران الاحتلال.
في الجمعة الأخيرة للشهيد ياغي، غابت والدته عن المنزل ليومين في زيارة لبيت عائلتها، الجميع هنا لاحظ ابتسامته وكأنها تحمل إشارات وداعية ترسمها عيناه وضحكته التي توقف الزمن عندها لتطبع في مخيلتهم. لم يشأ أحمد أن يترك خلفه أي آثار لخلافات، ذهب لتهدئة الخواطر بينه وبين أحد أصدقائه الذي انقطعت علاقته به منذ نحو عام.
وفي غياب الأم كان أحمد أكثر الأبناء قربا إلى والده، يهتم بإعداد طعامه والجلوس معه، ومع صباح يوم الجمعة مكث عدة ساعات يجهز نفسه للمشاركة بالتظاهرات التي انطلق إليها عصرًا، فيما تحرك والده للمشاركة في حفل إشهار خطوبة أحد المعارف، لم يدرِ ما الذي ستحمله الساعات القادمة، فقد سمع أحمد وهو يمر من أمامه يتصل بأصدقائه يطلب منهم الاستعجال للمشاركة بالمسيرات.
وما إن أشارت عقارب الساعة إلى السابعة مساءً، كان في انتظاره ابن شقيقه الذي جاء إليه مسرعا ودقات قلبه تخفق لا يعرف من أين يبدأ "يا عم؛ أحمد متصاوب؟"، لم يكن يعرف ما الذي يجري.. أعاد السؤال على ابن أخيه الذي أعطى جواباً غير واضح "الناس بقولوا إنه تصاوب أو استشهد".
استقبل الأب الخبر الصادم برضا وحمد الله على كلتا الحالتين وذهب للمشفى ليجد ابنه شهيدا بعد أن اخترقت صدرَه رصاصة إسرائيلية أطلقها قناصٌ شرق مدينة غزة.. أما أمه فقد دهش الجيران عندما جاءت وتلقت الخبر بالزغاريد لعلها أرادت أن تقهر بها الاحتلال بدلا من أن يقهر قلبها الذي سكنه الحزن بفراق نجلها.
مشاركة دون انقطاع
يقول والده: "منذ 30 مارس/ آذار الماضي لم يتخلف عن جمعة واحدة من مسيرات العودة، كان دائما يتقدم الصفوف، يشارك في نقل المصابين والشهداء، وكان يحفزهم على المشاركة والتقدم إلى السياج الفاصل"، مضيفاً "في كل مرة كنت أحدث نفسي الله يعلم يرجع أو لا، كنت أودعه بنظراتي دون أن يعلم".
ورغم أن الشهيد تعطل عن العمل قبل نحو عام من شركة مقاولات عمل لديها، إلا أنه كان يعطي كل دخل يحصل عليه من أي عمل مؤقت لوالده العاطل عن العمل كذلك ويكتفي بمصروفه اليومي، يتابع والده حديثه.
ورغم محاولات والد الشهيد التماسك إلا أن عميق حزنه يخرج في ثنايا الجمل وعينيه اللتين تبرقان بالدموع، يجاهد نفسه لئلا تنسكب على خده، تجول محطات مختلفة من حياة نجله في خاطره، ينتقي إحداها: "حينما كان يعمل بشركة مقاولات قبل عام، تعرض لإصابة بسيطة في عينه وأخذها ذريعة للحصول على إجازة لمدة أسبوع ثم شهر ثم الاستقالة من العمل".
ليكتشف والده بعد أشهر أنه انخرط في صفوف المقاومة، فضحى بعمله لأجل ذلك وانتسب لمجموعات الشهيد "أيمن جودة".
وهنا يكمل شقيقه منتصر (29 عاما) بأن أحمد الشهيد "كان قدوة له، وفيّ لأصدقائه، أصيب قبل عام خلال مشاركته في المسيرات الشعبية في قدمه برصاصة إسرائيلية، ونظرا لشدة صلابتها أخذ صورة سلفي وهو ممدد على سرير المشفى، ورغم ذلك عاد للمشاركة في المسيرات".
ويقول منتصر، إنه لا ينسى السنوات الخمس التي قضاها أحمد عاملًا في البناء "كنا نراه يعمل تحت أشعة الشمس، ويعود للمنزل في ساعات الليل ونرى أثر التعب على وجهه ويديه وجسده المتعب .. باختصار كان حلمه أن يعيش حياة كريمة".
(ر.ش)