لمى خاطر من ذلك الصنف من الناس الذي لا يحتاج إلى تعريف، والذي تعريفه لا يزيد في منزلته، ولا حتى يزيده بيانًا، وإنّما هي من الصنف الذي ينبغي أن يتحدث عنه الناس استمدادًا وتعلّمًا، ولطالما كانت مصادر المعرفة أوسع من أن يُحاط بها، ومن ذلك أن بعضًا من البشر بوجودهم؛ هم مصدر معرفة دائم الإشعاع، وأمّا نوره وما يبقى منه في الناس معرفة، فبحسب استعداد الناس، وأهليتهم لتلقي ذلك الإشعاع.
لمى خاطر يرادف معنى وجودها الصلابة، وما تلك الصلابة إلا من التصلّب، ثمرةَ المران على الجَلَد، وبكلمة أخرى صنعت هي معنى وجودها، وما ذلك بالخيار السهل في هذه البلاد، وما تلك المهمة بما يحفها باللينة، وإنما أتت عليها لمى خاطر بحذافيرها، طوّعتها، حتى صارت، وهي، معنى واحدًا لا تفترقان، على سوية واحدة من الالتحام في المعنى الواحد، طول الطريق، وكلّ الوقت، مع تعاظم العقبات أثناء ذلك كله.
لمّا بدأنا نعرفها كاتبة، قبل عشرين سنة تقريبًا، لم يكن ثمن الكلمة في بلادنا كما هو اليوم، ويمكنك بعد ذلك أن تقول لقد كانت الكلمة بلا ثمن، يمكن لمن شاء أن يلقيها ثم يستدير عنها آمنًا من كل تَبِعة، وأن يَظْهَرَها قاعدٌ عن الواجب يتعالى بها على قائم في الواجب.
لكن الصدق ينجلي إذا أخذ الزمن في ابتلاء الكلام وأصحابه، وقد ظلت كلمتها الأولى، كما هي، محض نقاء وكأنّها لم تتعرّف إلى هذا العالم بعد، وكأنّها غِرّة طفولة خالية من أي وعي سابق، ثم هي في الوقت نفسه، مستوية على أقصى ما يكون الأشدّ وكأنّها قد عَبَرت شدائد العالم كلها، وما أقلّ أن يكون هذا، أن يحتفظ المرء بكلمته الأولى غضّة وكأنها بكر الكلام، وصلبة وكأنها عن شفرة سيف صقلته المعارك تنسال!
فلمّا صار على الكلام رقيبان، وانشغل العدوّ بعدّ الكلمات، وعدّ المتابعين على صفحات الفيسبوك، بعدما خلا همّه مما يشغله بغير الكلام، صارت الكلمة مكلفة من سنواتك ورزقك وعملك ودراستك وظروف عائلتك.. خذ مثلًا، حين كتابة هذه الكلمات، يحكم الاحتلال على الطالبة الفلسطينية علا مرشود بالسجن الفعلي سبعة أشهر بتهمة التحريض، وحينما نقول بتهمة التحريض فإنّما نعني بتهمة الكلام الذي لا يروق للعدوّ.
فلمّا صارت لمى خاطر تدفع الثمن، وتختبر نفسها باختبار البلاء الذي لا يكفّ عنها وعن عائلتها، وهي تعاين اقتحام بيتها غير مرة، واعتقال زوجها غير مرة عند غير رقيب، والأذى الذي طال ابنها، وتتلقى في كل حين مزيد التهديدات التي تتواتر عليها وعلى أهلها، وجدت نفسها ماضية على كلمتها الأولى بالوصف الذي وصفناه.
لمى خاطر، وسوى ما ذكرنا من معنى كلامها، فإنّها تَنْحَتُ حرفها ببراعة، وبالصورة التي تمنحها لقب سيدة السهل الممتنع، وهي بذلك جديرة أن تبني من الكلمات لذاتها مجدًا، أديبة، أو أي شيء، مما نطمح له، نحن معاشر المشتغلين في الكتابة وما يدخل في حقلها.
إلا أنّها كادت أن تقصر كلمتها على هذا الواجب العامّ، وأن تصنع منها وجهًا للجهاد، وكفًّا تصفع بها الخور، وصوتًا تنادي به على الرجولة، وضميرًا يحفظ ما كان في البدء على حقيقته الأولى، فما انشغلت بعد ذلك بالبحث عن شهادات عليا، ولا عن مكانة في عدسات الكاميرات، ولا عن شموخ مصطنع في مؤتمرات العواصم الآمنة من فجأة العدو على أبواب البيوت وفي غرفاتها، كان يكفيها أن تقول كلمتها هنا، داخل فلسطين، خالصة، كذا نحسبها، وأن تكون أمًّا تمنح أبناءها من صلاحها، وبلاغتها، وبأسها.
وها هي الآن، تُقاد إلى السجن، تلحق أخوات سبقنها، في وقت لا يغضّ العدوّ طرفه عن أنثى تعرف واجبها، وتنهض بالمسؤولية الحقّة في وقتها، ولا يستقلّ فيه حامل كاميرا، ولا يستخفّ بصاحب كلمة يمنحها من قلبه وعمره، ولا يستثني من بطشه ناشطة طلابية في جامعة إذا كانت محسوبة على فصيل مقاوم..
تُقاد إلى السجن وهي لم تزل تقول كلمتها، ذات الكلمة التي قرأناها لها أول مرّة لمّا عرفناها كاتبة، وهي بذلك لا تثبت إلا أن هذه المهمة، ولو اقتصرت على الكلمة، من داخل هذه الأرض، قاسية وثمنها مكلف، وهي مهمة لها أهلون، جديرون بالمؤازرة والدعم وتعزيز صمودهم، ولمى وأخواتها وإخوانها من ذلك الأهلون، فيا لرداءة من جهل ذلك أو أنكره.
لمى وأخواتها.. عليهنّ من الله السلام.