فلسطين أون لاين

​أمير ولؤي وحكاية "السلفي الأخير"

...
غزة/ أدهم الشريف:

كانت عقارب الساعة تقترب من الرابعة من مساء 14 تموز (يوليو) الجاري، عندما قرر الصديقان أمير النمرة ولؤي كحيل الذهاب إلى ساحة الكتيبة (واحد من أهم المتنزهات في مدينة غزة).

لقد اعتادا الخروج معًا إلى هناك للتنزه واللعب والتقاط صور (السلفي)، غير أنهما لم يعلما أن حياتهما هذه المرة ستزهق في غارة إسرائيلية استهدفت منبىً خرسانيًّا يقع غرب المتنزه، وأن هذا "السلفي" سيكون الأخير لهما.

يومها طلب أمير من والدته بضعة شواكل ليكمل على ما كان في جيبه لشراء الشاورما، واحدة من أكثر الأطعمة التي كان يحبها الطفل البالغ من العمر (15 عامًا)، فأعطته والدته ما يريد قبل أن يغادر برفقة أعز أصدقائه لؤي.

كانت تعتقد أن نجلها سيغيب عنها ساعات قصيرة، ويعود إلى حضنها من جديد.

تقول: "إن أمير كان يذهب يوميًّا إلى ساحة الكتيبة للعب كرة القدم مع أصدقائه، ولم يتوقع قصف مكان آمن يتنزه فيه الغزيون".

وأكثر ما كان يفضله التقاط الصور مع أصدقائه، فأغلب الصور التي وجدت مخزنة بهاتفه النقال التقطت في ساحة الكتيبة المكسوة بالإنجيل الأخضر.

وبعدما تناول أمير ولؤي وجبتي الشاورما صعدا إلى سطح المبنى، لالتقاط الصور التذكارية كما اعتادا.

لكن قصف الاحتلال الإسرائيلي جاء على حين غرة، وحول الطفلين المفعمين بالحياة إلى جثتين هامدتين تكسوهما الدماء.

ووثقت مقاطع (فيديو) كيف قصف مبنى دار الكتب الوطنية التابع لوزارة الثقافة بصواريخ أطلقتها طائرات احتلالية دون طيار، قبل أن تغير مقاتلات حربية على المبنى وتدمره كاملًا، في واحدة من جولات التصعيد ضد غزة.

ويبدو أن الأم ما زالت تحت وقع صدمة فقدان طفلها، منذ لحظة استشهاده ورؤية صوره عبر وسائل الإعلام.

تقول عن أمير: "إنه ذو أخلاق عالية، يحبه الجميع، ويهتم بنفسه كثيرًا، ولا يفارق كرة القدم، ودائمًا يلعب بها مع أصدقائه".

وتذكر أنها لم تكن تعلم أستطاع نجلها أكل وجبة الشاورما قبل استشهاده، لكن في ثاني أيام العزاء جاءت امرأة وأخبرتها أن أمير ابتاع لأجلها عبوة مياه باردة حتى تشرب منها، قبل أن يأكل وجبته برفقة صديقه ويغادرا الساحة الخضراء متوجهين إلى أعلى المبنى.

وفعلًا استطاع الصديقان التقاط آخر (سلفي) لهما.

كان الهدوء يهيمن على لؤي الذي أمسك بهاتف أمير والتقط الصورة، قبل أن تنهمر صواريخ الاحتلال الإسرائيلي.

وبعد دقائق معدودة ارتجت مدينة غزة من الغارات المتتالية، التي تسببت باستشهاد الطفلين على الفور.

لؤي وجع الماضي

ومثلما ترك أمير فراغًا في قلوب تشتاق إليه في كل لحظة تمر؛ ترك لؤي أيضًا وجعًا وألمًا يطلان من عيون أفراد عائلته.

وأكثر ما يؤلم والدته مها كحيل أن لؤي هو نجلها البكر، المميز في دراسته، الذي كانت تعتمد عليه كثيرًا.

وكان لؤي البالغ (15 عامًا) يحظى بشعبية واسعة بين أصدقائه في موقع التواصل الاجتماعي (فيس بوك)، حتى إنه كان يدون أشياء كثيرة عن حياته اليومية.

وقبل استشهاده ببضعة أيام كتب على صفحته الشخصية: "أنا وجع الماضي أنا الذكريات"، وعندما رأت والدته هذا المنشور لم يثر ذلك حس الخوف من أن تصبح كلماته حقيقة.

وتذكر والدته جيدًا أحد المنشورات التي كتبها على (فيس بوك): "سؤال في الجغرافيا: أين تقع السعادة؟"؛ فتوالت الردود من الأصدقاء بعد استشهاده: "في الجنة".

وأصبحت هذه المنشورات أيقونة في وسائل الإعلام الإلكترونية والاجتماعية، بعد استشهاد لؤي في القصف الإسرائيلي.

وقبل خروجه إلى ساحة الكتيبة كان من المقرر أن يشارك في تدريب كرة قدم في أحد النوادي المحلية، لكن بفعل التصعيد العسكري الاحتلالي آنذاك تقرر التأجيل.

وعلى إثر ذلك ترافق الطفلان إلى الكتيبة، ولم يعلما أن النهاية ستكون بهذا الشكل.

تقول مها: "فخورة بطفلي الشهيد رغم ما أعانيه من الفقد والحرمان".

وفي اليوم التالي لاستشهادهما هيمن الحزن تمامًا على مشيعي الطفلين، من سكان حي الصبرة، جنوب مدينة غزة، وتعالت الأصوات والتكبيرات وتزاحم الجميع لإلقاء نظر الوداع.

وسار موكب الشهيدين وكلٌّ يتأوّه ألمًا ويهتف فداءً لهما، بعد أن قضيا حياتهما صديقين ورفيقين في الحياة، وكذلك في الشهادة.

واجتمع جثمانا الشهيدين متجاورين في أحد مساجد الحي، لأداء صلاة الجنازة قبل مواراتهما الثرى.

ولحظتها كاد نحيب محمد النمرة والد أمير يتجاوز جدران المكان، وهو يتساءل عن الذنب الذي ارتكبه نجله ليستشهد في غارة جوية، أما مازن كحيل والد الطفل لؤي فأسند ظهره إلى أحد الجدران، وبكى نجله بحزن شديد.

تؤكد عائلتا الطفلين أنهما لن تنسيا حقهما في ملاحقة الاحتلال قانونيًّا بعد "جريمة" قصف الطفلين، فهما كما تقول العائلتان لـصحيفة "فلسطين" طفلان أعزلان.

وتحاول العائلتان المكلومتان لملمة جراحهما بعد أن غاب أمير ولؤي دون إذن، تاركين خلفهما ذكريات جميلة لن يمحو مرور الأيام رسومها من الذاكرة، وآخر صورة (سلفي) استطاعا التقاطها قبل أن تقتلهما طائرات الاحتلال الإسرائيلي.