من يقرأ كتاب الأب الروحي للحركة الصهيونية تيودور هيرتزل "الدولة اليهودية" يلحظأن ثمة نسبًا بينه وبين ما يتم تنفيذه الآن على أرض الواقع، فالكتاب هو وثيقة سياسية وضعها هيرتزل لتكون لمن خلفه خارطة طريق يهتدون بها إلى الحلم الأكبر وهو تأسيس دولة تجمع شتات اليهود.
ففي مقدمة الكتاب يقول هيرتزل بأن (فكرة الكتاب هي فكرة بالغة القدم، ألا وهي إحياء دولة اليهود، فأنا لم أكتشف لا حالة اليهود ولا سبل الارتقاء بها، وأرى أن قضية اليهود لم تعد قضية اجتماعية أو دينية، إنها قضية قومية)، ثم أوضح كيف يكون ذلك؟ قائلاً (فلنُمنح سيادة على جزءٍ من العالم كبير بما يكفي للوفاء بالمتطلبات العادلة لأُمةٍ ما، ويمكننا تدبر الباقي، فلدينا القوة الكافية لإنشاء دولة)، وما إن تم لهم الأمر واحتلوا فلسطين لتكون بالنسبة لهم دولة حتى بدؤوا بإيجاد مقومات الدولة وفق المعايير الدولية، فمن المعروف وفق العلوم السياسية، فإن ثمة مواصفات ومقومات يجب توافرها في الدولة كي تكون دولة بالمعنى السياسي منها (الشعب -الحيز الجغرافي –الدستور -اللغة –القوانين –الجيش –العَلم –العملة، وغيرها من المعايير).
والحركة الصهيونية منذ تأسيها لدولة الاحتلال تسعى إلى توفير المقومات بدءاً من الشعب والأرض والعَلم والعملة واللغة والقوانين والجيش، فقد شجعوا هجرة اليهود لفلسطين، وجلبوا الدعم المالي الهائل لتأسيس جيش لهم، وصاغوا عَلَمَهم وفق منهجية دينية توراتية، واعتمدوا اللغة العبرية لغة رسمية استناداً لآمال هيرتزل الذي قال في صفحة 116 من كتابه الدولة اليهودية (ثم سيتم اختيار اللغة التي ثبت أنها أفضل وسيلة للتواصل العام لتكون اللغة القومية).
إنّ إقرار الكنيست قانون "الدولة القومية" بالقراءة الثالثة والأخيرة بأغلبية 62 نائبًا مقابل معارضة 55 وامتناع اثنين، هو تطبيق مهني ودقيق لمبادئ ونبوءة هيرتزل، حيث بدد المصوتون مخاوف هيرتزل الذي لم يُخفِ قلقه على المشروع الصهيوني حين قال "يتوقف على اليهود أنفسهم أن يبقى هذا الكتيب السياسي مجرد خيال سياسي، وإذا كان الجيل الحالي بهذا القدر من الفتور بحيث يعجز عن فهم هذا الكتيب على النحو الصحيح، فسينهض في المستقبل جيل أفضل وأحسن يستطيع فهمه".
بالفعل فإن المتأمل فيمن صوتوا يتضح أنهم الجيل الذي قصده هيرتزل، خاصة أن بنيامين نتنياهو ليس رجل سياسة بالمعني التقليدي، بل هو يمارس السياسة من منطلق فكري وعقائدي ويحاول تنفيذ رؤية الأب المؤسس للحركة الصهيونية هيرتزل.
على ماذا نص قانون "الدولة القومية"؟
1- أن اسم الدولة "دولة إسرائيل"، والقدس الكاملة والموحدة عاصمة لها، وهي الدولة القومية للشعب اليهودي، وأن حق تقرير المصير فيها يخص الشعب اليهودي فقط.
2- علم الدولة أبيض وعليه خطان باللون الأزرق وفي وسطه نجمة داود زرقاء.
3- شعار الدولة هو الشمعدان السباعي، وعلى جنبيه غصنا زيتون، وكلمة (إسرائيل) تحته.
4- النشيد الوطني للدولة هو نشيد "هتكفا".
5- يلزم القانون المحكمة العليا في (إسرائيل) بتفضيل "الهوية اليهودية للدولة" على القيم الديمقراطية في حال وقع تناقض بين الهوية والديمقراطية.
6- تم استبعاد اللغة العربية التي كانت إلى جانب العبرية لغة شبه رسمية للدولة، إذ ستصبح العبرية اللغة الرسمية في (إسرائيل)، على أن يكون للعربية "مكانة خاصة".
7- تنمية الاستيطان اليهودي من القيم الوطنية، وستعمل (إسرائيل) على تشجيعه ودعم تأسيسه.
لماذا الغضب من قرار القومية اليهودية؟
إن من يتأمل في بنود القانون يجد أن الاحتلال الصهيوني يمارس على أرض الواقع منذ احتلاله لفلسطين كل ما أقره في قانون الدولة القومية، حتى قبل أن يتم تبني القرار بشكل رسمي، فدولة الاحتلال لها جيش ولغة وعلم وعملة وقوانين وتسيطر على مساحة شاسعة من فلسطين، والاستيطان مستمر بلا هوادة، والنشيد الصهيوني يسمع في دول عربيةٍ وعلمها هناك يرفرف، والكثيرون يتعاملون مع (اسرائيل) على أنهاقدر لا بد منه، والقدس ملك يمينهم بفعل الأمر الواقع، فلم العجب؟
الصبغة الدينية حاضرة في الفعل السياسي:
إن دولة الاحتلال إذ تبني مشروعها على أساس ديني بحت، أي لا مكان لغير اليهود في الدولة، وهذا تأكيد على أن السياسة الصهيونية تستند في منهجها إلى رؤية دينية توراتية، وهي بذلك توجه صفعة جديدة للأنظمة العربية التي تلوح أغلبها ليل نهار برغبتهم في تحويل مسارات المجتمع والدولة إلى المسار العلماني القاضي بفصل الدين عن الدولة.
الموقف العربي من القرار:
تحاول الأنظمة العربية دوماً الظهور بمظهر المنسجم مع موقف الشارع العربي من قضية فلسطين، لكن موقفها لا يتعدى الإدانة والاستنكار والتي تحاول تغليفه بالحكمة والدبلوماسية، رغم أن أصغر مواطن عربي يعرف أن الأنظمة العربية توافق في السر وتعترض في العلن من باب لا يموت الذئب ولا يفنى الغنم.