ليس الحج مجرد نزهة كما يتخيّل كثير من الناس، ولا هو مجرد أفعال لا معنى لها ولا روح، إنما الحج عبادة روحية بالإضافة إلى كونها عبادة بدنية، فكما يحج بدن الإنسان، فإن روحه هي الأخرى تشارك في شعائر الحج؛ بل إن حج الروح قد يكون أكثر متعة، وأكثر تأثيرًا في النفس الإنسانية من حج البدن فقط، وقد يكون لتدبر أفعال الحج وأقواله أكبر الأثر في تحقيق المقاصد التي يرمي إليها المشرع من تشريعه لهذه العبادة التي فرضت على المسلم مرة واحدة في العمر.
وقد نلمس هذا في قول الله تعالى عندما يفتتح الآيات الأولى التي تتحدث عن الحج في سورة البقرة ، حيث يقول – عز وجل - (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ)، فالمتأمل في هذه الآية يجد أنه بدأ الحديث ببيان أن الرفث وهو الكلام الذي يستحيي منه، والذي لا يليق أن يقال بين عامة الناس، وكذلك الفسوق، وهو المعاصي، والجدال، وهو الإكثار من الكلام الذي لا فائدة منه، ولا طائل، والذي قد يوغر الصدور، إن كل هذا ينبغي أن ينزه الحاج نفسه عنه، والسبب في ذلك أنه يتنافى مع ما ينبغي أن يفعله الحاج عند أدائه لمناسك الحج.
فالرفث والفسوق والجدال تلهي الناس عن تأمل مناسك الحج، وتبعدهم عن تدبر هذه المناسك، من أجل ذلك نهي الحاج عنها، ومن هنا قلنا إنه لا بد من أن يحج الإنسان ببدنه وروحه معاً، ولنقف بعض الوقفات عند مناسك الحج، محاولين بيان ما يمكن فهمه من معانيها، واستحضاره عن أدائها.
ومن أعظم مناسك الحج الوقوف بعرفة، وهو جبل متسع يقف فيه جميع الحجيج حتى مغيب الشمس، وجاء في فضله عن النبي – صلى الله عليه وسلم – قوله: "الحج عرفة"، أي أن ركن الحج الأكبر هو الوقوف بعرفة، وأن من لم يقف بعرفة فلا حج له، وهذا يعني أن الحاج ينبغي له أن يتأمل ذلك، وقف متدبراً هذا الركن، وما يُعطى فيه الحجيج من نعم الله تعالى، حيث جاء في ذلك قول النبي – صلى الله عليه وسلم – “ما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيها عبدا من النار من يوم عرفة وأنه يباهي بهم الملائكة”، فأي إنسان عاقل يعرف ذلك ويضيع على نفسه فرصة العتق من النار في مثل هذا اليوم، وحتى يكون له ذلك، فإنه لا بد من أن يشغل كل وقته في ذكر الله تعالى، وطاعته، والتوجه إليه بسؤاله العفو والمغفرة.
ثم يتوجه الناس بعد غروب شمس يوم عرفات إلى "المزدلفة" يبيتون فيها، وفيها المشعر الحرام الذي يقول الله فيه: (َإِذَا أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُواْ اللّهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِن كُنتُم مِّن قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّآلِّينَ)، إذاً المزدلفة مكان يُذكر الله تعالى فيه شكراً على هدايته الناس إلى دينه القويم، وهنا يتدبر المسلم حاله وهو مؤمن بالله تعالى، ويستشعر كيف يكون حاله لو لم يهده الله تعالى إلى الإيمان، فيشكر نعمة الله عليه.
ومن المزدلفة ينتقل الحجيج صباحاً إلى منى، وهناك يرمون الجمار، في أيام ثلاث، أو اثنين كما رخص لهم بذلك، ورمي الجمار يعني إعلان البراءة من كل شرك، والولاء لله وحده، حيث الرمي هو رمز لرمي كل ما خالف منهج الله تعالى والتبرؤ منه، وهذا ما يجب أن يستحضره الحاج طوال وجوده بمنى.
ثم يطوف الحاج بعد رمي الجمرة في اليوم العاشر من ذي الحجة، يطوف بالبيت العتيق، ويستحضر ذكر أبينا إبراهيم عليه السلام، إذ أمره الله تعالى بأن ينادي في الناس بالحج: (وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ)، وكذلك يستحضر الحاج أن وقوفه في هذا الموقف هو استجابة لدعوة أبينا إبراهيم عليه السلام، وأنه الآن يطوف حول أول بيت عبد الناس فيه الله تعالى.
ثم ينتقل بعد ذلك إلى السعي بين الصفا والمروة، ويتذكر هذا الموقف الإيماني الفريد، وتلك الثقة بالله تعالى، التي صدرت عن هاجر زوج سيدنا إبراهيم عليه السلام، وهي تسعى ما بين الصفا والمروة، تبحث عن طوق النجاة لابنها الذي كاد يموت عطشاً، حيث تركها زوجها في صحراء جرداء محرقة، فسألت: "آالله أمرك بهذا؟" فأجاب: "نعم" قالت: "إذاً لن يضيعنا الله"، قالت ذلك في هذا المكان الذي يغلب فيه حكم العقلاء أن من بقي فيه سويعات مات من حرّ شمسه المحرقة، ولكن كان لها ما ظنته بالله تعالى، فجدير بالحاج هناك أن يعيد ثقته بالله تعالى، وأن يتعلم من هذه الشعيرة من شعائر الحج حسن الظن بالله تعالى.