اقتنعت القيادة الإسرائيلية أن المقاومة الفلسطينية في غزة قد رفرفت بأجنحتها، وطارت، وأن غزة التي صارت نسراً جارحاً، لن تعود إلى الحظيرة دجاجة تلتقط الحب، وهذا ما أوقع الإسرائيليين في حيرة التعامل مع غزة، فلا هم قادرون على الحسم، والانتصار السريع السهل على غزة، ولا هم قادرون على ترك غزة تطور من قدراتها، وترسم مستقبلها، وأيقن الجميع استحالة تطبيق نموذج الضفة الغربية على قطاع غزة، لذلك صارت غزة هي الشغل الشاغل للمجتمع الإسرائيلي، وللأحزاب الإسرائيلية وللقيادات العسكرية، وصارت محط خلاف علني وإعلامي بشكل لم يسبق له مثيل، حتى دخل موضوع غزة ضمن دائرة المزايدات الحزبية، ووصل حد الاشتباك اللفظي بين الوزير نفتالي بينت، الذي اتهم الوزير ليبرمان بالضعف، ليرد ليبرمان ويتهمه بكثرة الحديث وإفشاء الأسرار، وباللغة نفسها تواصل الاشتباك بين الوزير ليبرمان والوزير إسرائيل كاتس، وبين رئيس الأركان أيزنكوت، الذي اعترض على تلبية مطالب الوزير المتطرف بينت بإطلاق الصواريخ من الطائرات المقاتلة على مطلقي الطائرات الورقية مباشرة ودون تردد.
ولم تزل ردود الفعل في دولة الكيان متضاربة بشأن الهدنة مع المقاومة، فقد رأت كل أحزاب المعارضة بالهدنة خضوعاً وخنوعاً للمقاومة، ورأى الكثير من الوزراء وأعضاء الائتلاف الحاكم أنفسهم أن الهدنة انصياعًا للمقاومة، وخضوعًا لمنطق القوة الذي سيجر الويلات على (إسرائيل)، وفق ما صرح بذلك رئيس الأركان السابق دان حالوتس، حين شرح في لقاء مع إذاعة "كان" العبرية سياسة (إسرائيل) التي يتجاهلها قادة إسرائيل الحاليون، حين قال: أي تنازل للمقاومة في غزة يعني بداية الانهيار أمام مزيد من الضغوط، وفضح الحقيقة حين أكد أن المعضلة ليست في غزة، وإنما انتقال ظاهرة غزة المقاومة للاحتلال إلى الضفة الغربية، لذلك فإن أي انتصار للمقاومة في غزة سيحرك جماهير الضفة للسير على نهج غزة، وهذا ما يجب الحذر منه.
حديث رئيس الأركان السابق يتوافق مع المزاج العام للشارع الإسرائيلي الذي تفاجأ بوقف إطلاق النار دون حسم، وقد أدرك أن صفارات الإنذار التي دوّت في محيط غزة مرة كل خمس دقائق، قد تدوي في مناطق أخرى، دون قدرة على الحسم! فكيف تصير التهدئة مع غزة دون ضمان عدم تكرار تساقط القذائف المصدرة من غزة؟ لقد عبر عن هذه المفاجأة استطلاع الرأي الذي أجراه موقع "واللا" العبري؛ حيث اعتبر 44% من الإسرائيليين أن حركة حماس قد خرجت منتصرة في المواجهة الأخيرة، في حين اعتبر 27% فقط أن إسرائيل قد انتصرت في المواجهة الأخيرة، والذي يؤكد هذه النسبة هو عدم رضا الإسرائيليين عن سياسة الحكومة تجاه غزة بنسبة 58%، لذلك فإن نسبة المؤيدين لشن حرب شاملة ضد غزة قد ارتفع إلى نسبة 45%، وهذه النسبة تعكس عدم شعور الإسرائيليين بالأمن، ودليل عدم ثقة بالمستقبل الذي أمسى مهدداً من عناد أهل غزة. من المؤكد أن استطلاع الرأي قد أزعج نتنياهو، وأعضاء الحكومة، وهم الذين يعرفون الواقع الميداني لغزة أكثر بكثير مما يصوّره الإعلام، وهم الذين يعرفون قدرات الجيش، ويعرفون إمكانيات المقاومة، لذلك كان رد نتنياهو على استطلاع الرأي صريحاً حين قال: إننا أمام مسيرة طويلة، يجب أن نستعد لاستمرار النضال ضد هذا الرعب، هناك تبادل للضربات، وهذا لن ينتهي بضربة واحدة، لا يمكن القضاء على حركة حماس بضربة واحدة!! هذا التصريح القوي الضعيف لرئيس الحكومة يؤكد عجز الجيش الإسرائيلي في حسم المعركة، ويؤكد أن الحصار والتآمر على غزة جزء من المسيرة الطويلة التي يتحدث عنها نتنياهو.
إن كلام رئيس الوزراء يتناقض كلياً مع تصريحات المسؤولين الإسرائيليين الذين يهددون باحتلال غزة، وكسر حماس، وتدمير غزة، وتصفية المقاومة، وما شابه ذلك من حرب إعلامية، تصريحات نتنياهو وضعت النقاط على الحروف، والتي تؤكد أن كل دولة إسرائيل حائرة في أمر غزة، ولا تمتلك جواباً لسؤال الشارع إلا وفق ما صرح به مصدر أمني إسرائيلي كبير، حين قال: يعمل الجيش الإسرائيلي وفق خطة منظمة، ولا يقوم بسياسة مبنية على استطلاعات الرأي العام، أو انتقادات الوزراء. إن جملة التصريحات الإسرائيلية المتناقضة، والتهويل الإعلامي، والصراع الحزبي، والفشل العسكري، والخلاف السياسي بشأن غزة، يؤكد أن هذه البقعة من الأرض شوكة قاسية، وقفت في حلق إسرائيل، فسدت عليها مجرى التوسع والهيمنة على المنطقة، ولا مناص لإسرائيل إلا بالتخلص منها، والابتعاد عنها.