تمتاز الصراعات اللامتكافئة بهيمنة "الصورة" على ديناميكيات سيرها وتطورها، لذلك تجتهد مختلف الكيانات على إدراجها ضمن خططها التشغيلية، الدبلوماسية والعسكرية. وحيث أن المواجهة بيننا وإسرائيل لا متوازنة، تسعى الأخيرة إلى ضمان ترويج روايتها، وعدم خسارة حرب الصورة، فالقوة العسكرية وحدها لا تفي متطلبات تحقيق أهدافها السياسية، في وقت يشهد فيه العالم طفرة إتصالية لامركزية.
وحتى نفهم معنى "اللامتكافئ" في القاموس الإسرائيلي، وعلاقة ذلك بالصورة، علينا الرجوع إلى نموذج بحثي أعده الوزير السابق "آمي أيالون Ami Ayalon"، والذي أحتوى تصوراً حول إدارة هذا النوع من الصراعات. فبحسب ما أورده، تختلف المواجهات الحديثة عن تلك التقليدية في متغيرين، يتعلق الأول بمستوى تفاوت القوة بين الأطراف المنخرطة، فيما يشير الثاني إلى كثافة التغطية الإعلامية التي تتخللها. وبالتدقيق في نموذجه الذي يقدم لأربعة أشكال من الحروب الحديثة، تمتاز الصراعات غير المتكافئة ذات التغطية المكثفة، بوجود كيان على شكل دولة مكتملة الأركان، فيما يأخذ خصمه هيئةً أقل، كحزب الله في لبنان، وحماس في فلسطين. هذا التوازن المعتل في الإمكانات، لا يعكس لقدرة الجهة الأولى على تحقيق نصر حاسم، بقدر ما يميل إلى صالح الطرف الثاني. فالإعتماد على الخيار العسكري حصراً، يستجلب معه بالضرورة تغطية إعلامية ذات بُعد إنساني، يتعاظم تأثيرها العكسي على الدولة، إلى درجة تقييد سلوكها الميداني تجنباً لأي انتقادات عالمية. وكلما ازدادت حدة الفوارق بين الطرفين خلال أي مواجهة بينهما، تصاعدت بالتوازي إمكانية نيلها تغطية إعلامية مكثفة، الأمر الذي يحد من قدرة الدولة على تحقيق أهدافها السياسية بوسائل عنيفة. ففي العصر الحالي، باتت الجماهير وما تحمله من تصورات مقدماً في الأهمية عن الحقائق الفعلية للصراع على الأرض. لذا، فإن تحقيق النصر في الحروب الحديثة يحتاج لمقاربة جديدة، تتجاوز تلك التقليدية التي عبر عنها "كلاوسوفيتز"، نحو إستراتيجيات جديدة، قوامها "الصورة".
وحرب الصورة Imagefare، بالمعنى العصري، لا تحيل إلى مدلول تقني أو فني، بقدر ما تشير إلى الإنطباع، وما يرسخ في الذهن من تصورات حول جهة ما، تؤثر على مكانتها. فبحسب "أيالون"، هي فن تشكيل وإدارة الإدراك، ومبدأ تشغيلي يستعيض عن تأثير وسائل الإكراه التقليدية في تحقيق الأهداف السياسية، لقدرتها الكامنة على مواجهة رواية الخصم ضمن فضاء معلوماتي مفتوح. فالطرق القديمة تمتلك تأثيراً محدوداً، لا يتجاوز المستويات التكتيكية، بعكس إستراتيجية "الصورة"، التي تستطيع تحقيق مكاسب طويلة الأمد.
ولو حاولنا تفكيك المعنى من الناحية العملية، سنلاحظ تلك العقدة التي أرهقت إسرائيل لما يربو عن ربع قرن، وحالة الإحباط التي تعتريها بسبب إنهيار صورتها على المستوى العالمي. فهي لم تأخذ بالحسبان صراع الرواية، ومتطلبات تشكيل الوعي، وحاولت تأمين أهدافها بالقوة العنيفة، دون الوصول إلى حسم عسكري واضح. فالمشكلة لا تتلخص في القدرة المادية، بل في مبدأ "إختلال القوة"، وما يستدعيه من منهجية تطبيقية إعلامية. فوسائل الإعلام، وفق هذه المعادلة، تجعل من الحسم مسعى بالغ الصعوبة، كما تمنح الطرف الأضعف فرصة تسويق روايته، وتقديم مظلوميته، ما يرفع منسوب التعاطف معه، لتبدو مسألة إخضاعه ضرباً من المستحيل.
ولو تعمقنا أكثر، سنكتشف تأثيراً واضحاً للبيئة المعلوماتية السائدة على نتائج حروب إسرائيل الأخيرة، خاصة أعوام 2006 و2009. فمفهوم الحسم بات يخضع لعدة عوامل، أهمها المعلومات، وما تقدمه من تفاصيل يومية لمسار تطور المواجهة، خاصة في المجالات الإنسانية والأخلاقية والقانونية. كما أن الحدود الجغرافية لم تعد ذات معنى حقيقي، تحصر أسرار الصراع، بل بات مساره مكشوفاً، يطالع الجمهور تطوراته من على أية بقعة في الأرض. هذه الحقيقة، جعلت من "الصورة" سلاحاً رئيسياً للحرب الحديثة، ما دفع المختص ناثان روجر Nathan Roger إلى إطلاق مسمى "تسليح الصورة" على الظاهرة، كإشارة دلالية على حالة الاندماج بين القوتين الناعمة والعنيفة.
وأخيراً، مفهوم "حرب الصورة" لدى إسرائيل يختص بالمحصلات. فالبنسبة لها، لا تتحدد نتائج الصراع على أرض المعركة، بل في الفضاء المعلوماتي، وأن أي جهد عسكري ميداني لابد وأن يأخذ بالحسبان إنطباعات الجمهور حوله. وبهذا، صار التخطيط لإدارة الإنطباع يسبق في الأهمية شكل التنفيذ العسكري.