تمخر مسيرة العودة الوطنية الفلسطينية الكبرى عباب المقاومة والنضال، وتواصل درب الآلام ومخاض المعاناة، وتشق طريقها الصعب المعمد بالدماء، المحفوف بالمخاطر والتحديات، والحافل بالمفاجآت والصدمات، وتواصل فعالياتها اليومية والأسبوعية دون كللٍ أو مللٍ، ودون تبرمٍ أو شكوى، أو أنينٍ وصراخٍ، ويمضي أبطالها غير مبالين بما يلقون ويواجهون، وغير خائفين مما ينتظرهم أو يتربص بهم، بل يمضون بأملٍ ورجاءٍ وثباتٍ ويقين، بلا يأسٍ يحبطهم أو ضعفٍ يمنعهم، ولا يقعدهم بأسُ العدو وبطشه، ولا يخيفهم استعداداته وتجهيزاته، ومعداته وآلاته، ولا يضعف من عزيمتهم كثرة الدماء ولا عمق الجراح، ولا يمنعهم من الرباط قناصة العدو وغدر جنوده، ولا يحول دون إقدامهم رصاصه الطائش المندفع نحوهم ولا المصوب تجاههم والموجه إليهم.
إنها الجمعة الرابعة عشرة للمسيرة الكبرى، التي خطت أولى خطواتها بوعيٍ وبصيرة، وبخططٍ مدروسةٍ وبرامج معلومة، وفعالياتٍ مرسومةٍ بحكمةٍ وتدرجٍ، في ذكرى يوم الأرض، في الثلاثين من آذار (مارس) الماضي، الذي كان صافرة البدء ونقطة الانطلاق نحو مسيرةٍ شعبيةٍ مدنيةٍ، وطنيةٍ جامعةٍ لأطياف شعبهم، توحدت فيها الفصائل والقوى، والمنظمات والهيئات، والنقابات والاتحادات، والفعاليات والشخصيات، ليعيدوا بها الاهتمام بقضيتهم، ويستعيدوا الأمل في عودتهم، ويسلطوا الضوء على معاناتهم، ويستحثوا المجتمع الدولي على الوقوف معهم ونصرتهم، وتأييدهم في نضالهم المشروع ومقاومتهم السلمية، بعد أن صم العدو أذنيه وأغمض عينيه، ومضى سادرًا في حصار قطاع غزة وتجويع أهله، متعاونًا مع الجيران، ومستقويًا بالحلفاء، ومستعينًا بالخصوم والأعداء، مستغلًّا ظروف المنطقة والأزمات التي تعصف بدولها والهموم التي تعاني منها شعوبها.
أثبت أبناء الشعب الفلسطيني بمسيرة العودة، التي ابتكروا فيها كل جديد، وابتدعوا فيها أسلحةً محليةً، وسخروا أدوات بيئتهم وألعاب أطفالهم؛ أنهم أصحاب حقٍّ وملاك أرضٍ ووطنٍ، وأنهم صبرٌ في الحرب وصُدُقٌ في اللقاء، وأنهم لا يخافون الموت ولا يهربون من القتل، فغايتهم العودة، وأملهم في الحرية، وعيونهم على الوطن، الذي يفتدونه بالأرواح والمهج، ويبذلون في سبيله الغالي والنفيس، إذ قدموا خلال الأربع عشرة جمعة التي مضت ما يزيد على مائة وثلاثين شهيدًا، من الشبان والشابات والأطفال وذوي الاحتياجات الخاصة، ومن طواقم الإسعاف والدفاع المدني، ومن الإعلاميين والصحفيين والمراسلين والمصورين وغيرهم، فضلًا عن قرابة خمسة عشر ألف جريحًا، إصابة العشرات منهم خطرة وحرجة.
فهل حققت المسيرة الكبرى أهدافها؟، وهل نجحت في مخططاتها؟، وهل تمكنت من استعادة الألق والبريق لقضيتها، وأعادت الوحدة إلى أبناء شعبها، وجمعت بين أطيافه وفصائله، ووحدت قواه الحزبية وتجمعاته الشعبية؟، وهل حجم الثمار التي جنتها والنتائج التي حققتها يوازي حجم التضحيات التي قدمها الشعب وما زال، علمًا أنها تضحياتٌ جسامٌ وخسائر في الأرواح كبيرة، التي هي في أغلبها شابة وفتية؟، وهل يشعر الشعب الفلسطيني في قطاع غزة خصوصًا وفي عموم الوطن وفي بلاد الشتات واللجوء بالرضا عن هذه المسيرة، ويرى أنها وسيلة نضالية مناسبة وآلية مقاومة مدنية فاعلة، وأنها تستطيع أن تردع العدو وأن تلجمه، وأن تنال منه ما لم تنل المقاومة المسلحة؟!
وهل أحرجت العدو الإسرائيلي وشوهت صورته لدى المجتمع الدولي، وكشفت صورة الاحتلال البشعة وممارساته القاسية المنافية للأخلاق والمناقضة للقوانين والأعراف الدولية، وعرَّت صورة قيادته السياسية والعسكرية، فعجز عن مواجهتها بالقوة، وتراجع أمام فعالياتها المدنية وأنشطتها السلمية، وأحجم عن استخدام أسلحته الفتاكة وآلات القتل الجماعية، وأمر بعد الجُمَعِ الأولى قناصته بالابتعاد وجنوده بالكف عن استخدام الأعيرة النارية، وتقليل حجم الإصابات القاتلة، تجنبًا للحرج الذي وقعوا فيه، والمساءلة الدولية التي باتوا يخضعون لها، وقد أدركوا أن المزيد من الدم لا يرهب الفلسطينيين، وأن المزيد من القوة لا تردعهم ولا تمنعهم؟
أم أنها أضرت بالشعب الفلسطيني ولم تقدم له شيئًا، وأنها كلفته ضحايا وكبدته خسائر كثيرة، كان بالإمكان تجنبها وعدم دفعها، وأنها كانت مغامرة ومجازفة، ومقامرة بالدماء وتضحيةً بمستقبل الأجيال، وأنها ساهمت في المزيد من اليأس والإحباط، وكرست الإحساس بالوحدة والضعف والاستفراد، وأنها لم تنجح في استنهاض الشعوب العربية والإسلامية، وفشلت في كبح جماح الأنظمة والحكومات العربية، التي باتت تتسابق نحو العدو، وتتطلع إلى الاعتراف به والتطبيع معه، وبناء تحالفاتٍ إستراتيجية معه؟
وأيضًا لم تمنع الإدارة الأمريكية من تنفيذ تهديداتها والوفاء بمخططاتها، والالتزام بوعودها الانتخابية، فنقلت سفارة بلادها إلى القدس المحتلة، بعد أن اعترفت بها عاصمةً أبديةً موحدةً للكيان الصهيوني، الذي رأته دولةً يهودية، يحق لها العيش والبقاء، ويجوز لها استخدام القوة والاعتداء من أجل الحفاظ على وجودها، وضمان أمنها واستقرارها؟
أو أنها أطلقت العنان للسياسة الأمريكية المتطرفة وأفكارها الغريبة المشددة، فأعلنت صفقة العصر، التي تنوي فيها تصفية القضية الفلسطينية وإنهاءها، ومنح اليهود دولةً آمنةً فوق أرض فلسطين التاريخية، بعد أن تفرض على العرب والجوار حلًّا إقليميًّا يستوعب الفلسطينيين ويعوضهم، مواطنةً في بلادهم، أو عودةً إلى دولةٍ فلسطينيةٍ مصطنعةٍ في غزة، على أرضٍ مقتطعةٍ من صحراء الجوار، لتكون هي الوطن البديل، والأرض التي إليها يعود اللاجئون، بعد شطب حق العودة إلى ديارهم وبلداتهم في أرض فلسطين التاريخية؟
قد تكون هذه التساؤلات منطقية ومشروعة، وقد يرى بعضٌ سلبياتها ويبني عليها، ويعتقد أن مسيرة العودة ليست إلا ضربًا من ضروب اليأس، وشكلًا من أشكال الإحباط، وأن أي محاولاتٍ لتزيينها باطلة، وأي مساعٍ لتجميلها خادعة، ولكن الحقيقة هي غير ذلك تمامًا، فقد أحيت مسيرة العودة القضية الفلسطينية من جديد، وفرضتها على الأجندة الدولية، وجعلتها رقمًا صعبًا يصعب تجاوزه، وأزمةً يستعصي على قوى الكون العظمى حلها دون موافقة أهلها ورضا شعبها، وما الدماء التي سالت إلا مشكاة تضيئ درب الأمة، وتأخذ بناصيتها إلى بر الحرية وآفاق العزة، فما تحررت أمةٌ بغير الدماء، ولا رحل المستعمرون عن أرضٍ بلا تضحياتٍ، ويومًا قريبًا بإذن الله سينتصر الحق، وسيفرح الفلسطينيون بنصر الله.