ثقيلة هي صباحات الشتاء، ولكن ثمة شيء دفع غادة بن سعيد إلى الاستيقاظ قبل الساعة الثامنة صباحًا، لتجهز نفسها لقضاء يوم جديد مع مريضات السرطان، وقبيل خروجها من البيت توجهت إلى غرفة والدتها "انتصار" لكي تلقي عليها تحية الصباح، ولكن غادة لم تجدها فحدثت نفسها: "سأتصل بها فور وصولي إلى عملي".
وفي طريقها إلى مقر عملها غرب مدينة غزة، كانت أسئلة متشعبة تداهم عقل غادة (27 عامًا)، ومن وسط تلك التساؤلات كان يبرز سؤال واحد: "هل سيكون نصاب الحاضرات كاملاً أم هناك سيدة جديدة أصيبت بالمرض حديثاً فأضيفت إلى قائمة المحتاجات إلى الدعم أم أن العدد سيكون ناقصًا لموت إحدى المقاومات؟".
بعد نحو 20 دقيقة أو يزيد قليلاً وصلت بن سعيد إلى مرادها، وباتت على شفا خطوة لتعرف الإجابة عن سؤالها الأبرز، ألقت التحية على زميلاتها، ثم تناولت من حقيبتها دفتر محاضراتها الورقي قبل أن تطرق باب الغرفة لتعبر إلى "مقاومات الوحش"، وهنا تذكرت ضرورة الاتصال بوالدتها، ولكن عادت لتؤجل الأمر إلى حين انتهاء جلستها الإرشادية مع المصابات.
وما إن وطئت الشابة مدخل تلك غرفة حتى تسمرت في مكانها وبدت كالمحنطة، محدقةً النظر في وجهٍ جديد جالسًا بثقة بين الحاضرات، ساد الصمت أجواء القاعة قليلًا حتى انكسر بتمتمات خرجت من الضيفة: "أهلاً أهلاً، يا غادة، يسعد صباحك ويرضي عليك يا بنتي"، فكانت الحاضرة الجديدة والدتها "انتصار" لا غير.
من رحم المعاناة
في خلفية المشهد: منذ عام 2009م قررت الشابة غادة بن سعيد تسخير حياتها وجل أنشطتها التطوعية لخدمة مرضى السرطان، إذ لمست من قرب معاناتهم، وعايشت تفاصيل صراعهم الدائم بين الحياة والموت، بعدما توغل المرض في جسد والدتها الأربعينية قبل ست سنوات.
بدأت حكاية الأم عام 2009م عندما كانت تشكو من ألم بالرقبة والكتفين ومنطقة الصدر، وبعد سلسلة فحوصات مخبرية داخل القطاع الساحلي وخارجه أثبتت أنها مصابة بمرض السرطان، ليكون ذلك التاريخ فارقًا في حياة أفراد العائلة جميعًا المؤلفة من 12 فردًا، وفي حياة البنت الكبرى غادة تحديدًا.
غادة الحاصلة على درجة البكالوريوس في علم الاجتماع النفسي لم تصدق للوهلة الأولى خبر إصابة والدتها، معتقدة أن كل النتائج خطأ، لكنها تداركت الموقف سريعاً بعدما استشعرت أهمية تقديم كل سبل الدعم والتشجيع النفسي لمن أنجبها أولاً، ولكل مصابٍ بهذا المرض ثانياً، بما يفوق مستوى التدريب الجامعي الذي كانت تقدمه في أثناء دراستها الأكاديمية بجامعة الأزهر.
وعن ذلك تقول: "أصبت بزلزالٍ داخلي بل شعرتُ أن الحياة أغلقت كل أبوابها في وجهي، كيف سأخبر إخوتي الصغار والكبار بالخبر، وبقيت أفكر طويلاً بما سيحل علينا في الأيام القادمة، لقد حاولت أن أجمع شتات نفسي مرات ومرات دون جدوى، إلى أن خرجت أمي من المستشفى بعد مكوثها عدة أيام، حينها رأيت أنها فرصة مناسبة لأستجمع قواي ثانياً وأنطلق بحياة أخرى".
في ذلك الوقت كانت غادة تجهز نفسها لإتمام متطلبات درجة الماجستير وتبحث عن عنوان لرسالتها عن فئة ذوي الاحتياجات الخاصة، ولكن "صاعقة الخبر" دفعتها إلى تغيير اتجاه رسالتها نحو مرضى السرطان، ووصلت إلى العنوان التالي: "برنامج إرشادي نفسي مقترح لتخفيف حدة الأعراض الاكتئابية وقلق الموت لدى الأشخاص المصابين بسرطان الدم (اللوكيميا) في غزة".
صراع الحياة
وتضيف بن سعيد لـ"فلسطين": "تعرفت أكثر إلى حيثيات المرض وكيفية التعامل مع المصابين وذويهم، وأيضًا شاركت في تنظيم سلسلة من الفعاليات والمبادرات عن العلاج النفسي، وفي عام 2013م شكلت فريق "مسار" لدعم مرضى السرطان"، مبينةً أن إصابة والدتها كانت السبب المباشر لخوضها مجال الدعم والتوعية.
وعن لحظة مصادفتها لوالدتها في إحدى جلسات الدعم تقول: "كانت لحظات مختلطة بالمشاعر، في البداية أصبتُ بحالة من الذهول، لكنها انقلبت إلى فرحٍ عندما سمعتُ أمي تتكلم عن تجربتها بكل شجاعة أمام الحاضرات دون خجلٍ أو التردد في البوح، متغلبة بذلك على نظرة الشفقة القادمة من عيون بعض".
ولا تخرج أحلام وطموحات بن سعيد عن سياق عملها، فالشابة العشرينية تنظر بصبر نافد لحظة تشافي والدتها من داء العصر، بالتوازي مع سعيها إلى مضاعفة نشاطها المجتمعي في رعاية ودعم مرضى السرطان من الفئات العمرية جميعًا، إلى جانب طموحها في نيل الدكتوراة في المجال نفسه.
رُب ضارةٍ نافعة
ومن وجع المعاناة الذاتية أيضاً راحت السيدة إيمان شنن تعمل على إنشاء تجمع لدعم ورعاية مرضى السرطان، حمل اسم: "جمعية العون والأمل لرعاية مرضى السرطان"، وذلك بعدما خاضت معركة الانتصار على المرض منذ إصابتها به عام 1999م.
وتقول شنن: "لم يكن توغل السرطان في جسدي بداية الذبول لروحي، بل كانت شرارة معركة استمرت حتى 2006م، كابدت فيها معاناة المرض وحاربته حتى وصل الأمر إلى إزالة الغدة الدرقية لدي، ثم قادني نفق الأزمة إلى الوصول إلى فكرة ساهمت في تغيير حياة كثيرات من المصابات".
وتضيف شنن لصحيفة "فلسطين": "كان لمعايشتي تجربة متشابهة مع تجارب المريضات الأثر البالغ في تأسيس الجمعية عام 2008م، فقد استشعرتُ المعاناة بدايةً من لحظة اكتشاف الإصابة وصدور النتائج مروراً بأخذ الجرعات العلاجية والترنح بين الحياة والموت، فرُب ضارةٍ نافعة".
وتسعى الجمعية إلى تحقيق جملة من الأهداف، أبرزها العمل على مساعدة المجتمع في التخلص من الخجل الاجتماعي والنفسي المرتبط بالسرطان، ونشر ثقافة صحية ونظام للمساندة النفسية والاجتماعية لتحسين نوعية الحياة للمرضى وعائلاتهم، وتسهيل الحصول على مستوى عال من الرعاية والخدمات التشخيصية والعلاجية للمرضى.
قلبٌ مفتوح
وتعد "العون والأمل" بمنزلة قلبٍ مفتوح لمريضات السرطان في غزة كافة، وعلى ذلك تعلق: رفعنا منذ الأيام الأولى شعار "نعم للأمل والتفاؤل ولا لليأس والإحباط"، وعلى إثر ذلك نجحنا في دعم المريضات وتأسيس "بيت الجمال" الذي تصنع فيه الأجزاء المفقودة من أجسامهن بطريقة يدوية، ونظمنا أنشطة غير تقليدية كبرنامج "الفضفضة" الأسبوعي.
وبجانب ذلك تنظم الجمعية رحلات سفر إلى مدينة القدس المحتلة والمسجد الأقصى لتغيير فكرتهن بأن السفر ليس فقط للعلاج الكيميائي والإشعاعي، في حين بلغ عدد المستفيدين من برنامج العون والأمل نحو 2750 معظمهن من النساء المصابات بسرطان الثدي، مسجلًا ارتفاعًا ملحوظًا منذ بداية العام المنصرم 2016م.
وعن المعيقات التي تواجه المبتلين بالسرطان في غزة تقول شنن: "يعاني المرضى من نقص حاد في الأدوية وعجز دائم عن توفيرها، وعدم توافر جهاز العلاج الإشعاعي في القطاع، الأمر الذي ينتج عنه عواقب خطرة، أهمها تأخر المرضى عن تلقي جرعاتهم العلاجية في الوقت المناسب، وإيقاف العديد من البروتوكولات العلاجية مددًا طويلة".
وتشير إلى أن السياسات الإسرائيلية تجاه غزة تؤثر على تحويل المرضى إلى الخارج إذ يرفض الاحتلال قرابة 45% من طلبات العلاج بذرائع أمنية، فضلاً عن تأخر مواعيد التحويلات الطبية، لافتة إلى أن الأوضاع السياسية الداخلية تشكل عائقًا آخر في وجه المرضى.
وتؤمن ضيفتنا أن "السرطان لا يعني الموت، بل هو بداية حياة جديدة تفرض على المصابين التسلح بكل معاني القوة والإرادة وقبل ذلك حب الحياة"، ومقابل ذلك تكشف أن أصعب موقف قد يواجهها في أثناء عملها هو لحظة فقدان إحدى "المقاتلات" أو سماعها خبر هجر الزوج لزوجته بعد إصابتها بالمرض.
وتحلم إيمان شنن بإقامة مستشفى متكامل داخل غزة يرعى مرضى السرطان من جميع الإصابات والفئات العمرية بعدما عرفت عن المرض ما لا يعرفه الكثيرون، لكن حلمها يصطدم بارتفاع التكلفة المطلوبة وواقع القطاع المحاصر، لذا تحلم بتأسيس مركز لعلاج المريضات بسرطان الثدي وإجراء العمليات التجميلية لهن.
هل يصبح الحلم حقيقة؟
وليس بعيداً عن حلم شنن يسابق المهندس إبراهيم الأيوبي الزمن لترويج فكرة إنشاء مستشفى تخصصي للسرطان في غزة، والحصول على الدعم المحلي والخارجي لتحويل حلم المرضى المحاصرين إلى حقيقية في أقرب فرصة لذلك.
ولكن كيف تبلورت فكرة المستشفى لدى المهندس الأيوبي؟، يجيب عن ذلك قائلاً: "في منتصف عام 2009م أصيبت زوجتي بسرطان الثدي، ومنذ ذلك التاريخ حتى وفاتها قبل خمسة أشهر تلمست من قرب حجم معاناة المرضى، فمحليّاً لا أدوية ولا مراكز متخصصة متوافرة لهم، وخارجيّاً المعابر الحدودية مغلقة في وجوههم وتكاليف العلاج باهظة الثمن".
ويضيف لصحيفة "فلسطين": "تشكلت النواة الأولى للفكرة عام 2015م، ولكن سرعان ما اصطدمت بواقع قطاع غزة المحاصر إسرائيليّاً منذ قرابة العقد، والانقسام الوطني الداخلي، ومع ذلك نجحت في تشكيل فريق تبنى الفكرة وطاف على عشرات المؤسسات لنشر المقترح والحصول على الدعم اللازم".
ويبين الأيوبي أن سكان غزة هم الفئة الأكثر تجرعًا لمرارة المرض بسبب ما يعانونه من أوضاع معيشية معقدة على الصعد كافة، لذا يعمل وفريقه جاهدين على تنفيذ مقترح المشروع، وتطبيقه على أرض الواقع خلال السنوات القليلة القادمة، في ظل الارتفاع الكبير لمعدلات الإصابة بالمرض داخل القطاع.