رمضان كله رحمة ومغفرة وعتق من النار، لكن التوجيه الإلهي والنبوي للعشر الأواخر كان أكثر من غيرها، وقد كان النبي (صلى الله عليه وسلم) يجتهد في العشر الأواخر ما لا يجتهد في غيرها، وكأنه إنذار أخير لكل مسلم، فقبل أيام كنا نتحدث عن قرب شهر رمضان، وقبل ساعات بدأنا صيام أول أيامه، واليوم نقف على عتبة العشر الأواخر منه، ورمضان سوق قامت ثم انفضت، ربح فيها من ربح وخسر فيها من خسر.
ويقبل المسلمون في هذه العشر على عبادة الاعتكاف في المساجد، والاعتكاف هو لزوم الشيء وحبس النفس عليه، وهو في الواقع قرار سجن تأخذه بكامل قواكَ العقلية، نعم، أنت تحبس نفسك في مكان واحد، وتمنع نفسك عن الدنيا وما أحل الله لك، وتكبح شهواتك وحاجاتك الفيسيولوجية، وبذلك إنك تسجن نفسك ولا تمارس حريتك، فكيف يكون ذلك خيرًا؟!
العلم قديمُه وحديثُه أثبت أن الإنسان مثلما يحتاج للحرية يحتاج أيضًا للضبط، وأفضل وسائل الضبط هو الضبط النفسي الذي يقوي الإرادة البشرية، ومن أساليب العلاج أن يدرب الإنسان نفسه على لجم شهواته والتحكم بعواطفه، فيكون بذلك قادرًا على قيادة نفسه، وليس العكس، وهذا يذكرنا بقول الفيلسوف اليوناني أرسطو: "من يهزم رغباته أشجعُ ألف مرة ممن يهزم أعداءه".
العشر الأواخر فرصة جيدة لتقود ذاتك، نعم، ستسجن نفسك في ظروف لم تألفها، لكن النتيجة هي الأهم، أن تعالج ما راكمته شهور السنة وأيامها في حياتك، تأخذ السمين منها وترتبه، وتمحو الغث وغير الضروري، الذي كنت تعتقد مدة أنه سيلازمك طوال حياتك، حينها فقط ستحقق أعظم انتصار في حياتك، وهو الانتصار على الذات.