الثالثة عصرا من يوم الأربعاء الرابع من يناير/ كانون الثاني الجاري، "هيني اجيتك يا أبو جهاد " .. يخاطب الصياد محمد الهسي ابن خالته جمال الهسي (27 عاما)، بابتسامة بدأ بها يومه، ثم يتبع ذلك.. " بدي أسرح عشان بدي أصيد سمك".
كان الأربعاء في بدايته جميلا، انطلقوا في رحلة محفوفة بالمخاطر، ومغمسة بالمعاناة داخل مساحة ضيقة، لحظة الغروب عندما سقط قرص الشمس الأحمر بهدوء خلف مياه البحر المتلألئة.
انطلقوا أبناء آل الهسي على متن قاربين كبيرين بعد العصر إلى البحر لصيد الأسماك، وكان بانتظارهم قارب ثالث ثابت في البحر لا يتحرك على مدار أربعة أيام، يبلغ طوله 17 مترا وعليه 100 كشاف كما يروي جمال الهسي لصحيفة "فلسطين".
انطلق الصيادون لصيد الأسماك قبالة سواحل شمال مدينة غزة تحديداً قرب منطقة السودانية، وما أن وصلوا لمسافة خمسة أميال داخل البحر، طلب محمد أن يذهب إلى المركب الثابت، سأله جمال: "لماذا تريد هذا المركب؟"، رد عليه محمد "أريد أن اتجنب اليهود.. فهذا المركب أشعر بأمان داخله".
أحداث دراماتيكية
وقبل أن يغادر محمد إلى المركب الثابت، وفي أجواء الابتسامة والسرور التي سبقت العاصفة التي لم يدركها هؤلاء، سأل جمال محمداً: "ليش لابس جاكيت حمرا"، ضحك الأخير وقال: "هذه جاكيت الإعدام"، ليوصيه محمد بعد ذلك وكأنه حدس داخلي: "إذا صارلي شيء بدي اتصل عليكم وأناديكم".
الساعة الثامنة مساءً، يكمل جمال ذكر التفاصيل: "قمنا بصيد الأسماك التي جاءت وتجمعت على إنارة القاربين اللذين كنا على متنهما، وبعدها قررنا أن نذهب لصيد الأسماك في القارب الذي يتواجد عليه محمد".
ما زال يتحدث عن تلك اللحظة: "اقتربنا من القارب الذي يوجد عليه 100 كشاف الساعة التاسعة ليلا، وهو قارب ظاهر الوضوح حتى من شاطئ البحر، فيمكن لأي شخص رؤيته وهذا دليل أن عملية الاصطدام كانت متعمدة من قبل الزورق العسكري الإسرائيلي (الدبور)".
تفترش تلك الأحداث الدراماتيكية ذاكرة جمال، ويكمل: "حينما اقتربنا لمسافة 300 متر من قارب محمد، بدأ الزورق الإسرائيلي بإطلاق النار علينا، وتوجيه شتائم باللغة العبرية، ونحن في طريقنا للمركب كنا نرى محمد بوضوح كان في وضع آمن، وفجأة سمعنا صوتا قويا تبين لنا أنه صوت اصطدام القارب الإسرائيلي بقاربنا".
في هذه اللحظة، ذهب جمال على متن قارب صغير (حسكة) إلى المكان، فلم يعثر على محمد، وكل ما شاهده بقايا قاربهم الذي فتفته الزورق الحربي الإسرائيلي، ولم يتبق منه سوى مجموعة من الأخشاب المتطايرة، يقول جمال: "كان المشهد لا يوصف وكأن صورة لشخص تراه بعينك ذهب بلمح البصر وأنت تنظر إليه فجأة لا تجده".
بعدها بدقيقتين جاء الزورق الإسرائيلي، سأل عن عدد الأشخاص الذين يتواجدون على القارب "أنت غطست المركب وقتلت صيادا بداخله".. بهذا رد جمال ورفاقه الستة على سؤال الزورق الإسرائيلي الذي حدثهم عن بعد.
يواصل جمال حديثه بنبرة صوت ممزوجة بالحسرة على رحيل أخ غالٍ: "كان الاصطدام متعمدا فالاحتلال يمتلك تكنولوجيا متطورة في البحر ولديه أجهزة استشعار".
وبقي الصيادون يبحثون عن جثة محمد حينها من الساعة التاسعة ليلاً وحتى الثانية فجرا، ولكن عمليات البحث لم تنجح في العثور على ذلك الجثمان، وكأن البحر أصر على احتضانه بعد أن قتلته القوات البحرية للاحتلال الإسرائيلي بدم بارد.
"ريس" في البحر
والشهيد الصياد محمد الهسي (34 عاماً) متزوج وأب لولدين وبنت (أحمد وعبد المنعم ونغم)، يصفه جمال بأنه " ريس " في البحر، يمارس المهنة منذ 20 عاما، ولديه خبرة كبيرة في الصيد، ومعرفة باتجاه التيارات البحرية وأجهزة البحر، يزيد: "حينما يتواجد محمد على القارب يكون الأفضل في الصيد فهو يتقن كل حركة يفعلها".
يدلل جمال على حديثه مستذكراً رحلتي صيد جمعتاه بمحمد، ففي الرحلة الأولى اصطاد محمد 20 سمكة بسنارته بوزن 3 كغم، إضافة إلى 20 كغم من الأسماك نوع "فريدي" وعملية الصيد بالسنارة تسبق عملية رمي الشباك.
ذات مرة اصطاد محمد سمكة لوكس وزنها 20 كغم بسنارته، وباعها بمبلغ 800 شيكل، ويكمل: "غالبا السنارة لا تحمل هذا الحجم ولكن بخبرته نزل إلى الماء ومد يده وأخرجها".
بعينيه التي عصفتها أحزان الفراق ورسمت خارطة الألم، يتحدث جمال عن محمد بأنه صاحب قلب مبتسم، يحب مساعدة الآخرين، يوصيهم بالأخلاق، يحبه الصيادون ويحبون الخروج معه للبحر، ويختم: " كان وضعه المادي متوسطا إلى ضعيف، يحب عائلته ويتقاسم أجرته مع والدته ويبرها، كنا نعامله كريس ونتركه وحده في القارب الكبير الذي يبلغ سعره 150 ألف دولار، ونحن من الصعب أن نترك شخصا وحده إلا إذا كان لديه خبرة واسعة".
وفي بيت العزاء وفي زحمة المعزين أخذنا من وقت والد الشهيد قليلا، فهو لم ير ابنه قبل أربعة أيام من استشهاده، فيقول أحمد الهسي والد الشهيد: "إن كل هذا التضييق بهدف حرماننا من الصيد، ولكن سنقاوم ذلك وسنستمر بالذهاب والإبحار حتى يزول الاحتلال".