يبدع هذا الشعب، عندما يجد أن نضاله وصل إلى أفق مسدود. هو لا يكل، ولا يمل، ولا يتصالح مع الواقع المهين، لكن خروج نضالنا من الأفق المسدود، سيصطدم دائما بالعائق الأكبر: السلطة الفلسطينية.
هذا ما كان في انتفاضة الأفراد، وفي هبة البوابات، وهذا ما سيكون الآن.
لقد فتحت لنا مسيرة العودة احتمالات ثلاث، لا يحتمل أي منها استمرار الواقع القائم، لكن ليس جميعها قادرا، على قلب الطاولة أمام الأداء السياسي القائم، الذي تتكسر أمامه منجزات النضال والتضحيات.
لا أحد يؤمن بغلبة السيناريو الأكثر منطقية والأكثر وطنية والأكثر أخلاقا، ألا وهو توسع نموذج المقاومة الشعبية للضفة، الأمر الذي كان سيعني الانفتاح على احتمالات سياسية مفتقدة حاليا. ما يرشح الآن هو التأرجح بين فعلين، لا نقلل من أهمية أي منهما، أولهما المثابرة في الحراك لكن بشكل محدود زمنيا وجغرافيا، وتخفيف شروط الحصار، مما يعطي لغزة فرصة لكي تلتقط أنفاسها وتستعيد عافيتها وتجدد النضال بوسائل غير تقليدية، وتفرز قيادات من خارج الفصائل تأخذ دورها بشكل تكاملي. وثانيهما: الانتهاء لما وصلت إليه "مسيرة العودة "من إرسال رسالة سياسية أنه لا حل بالقوة للقضية الفلسطينية، وأن الحصار غير قابل للاستمرار لا بالقوة العسكرية الإسرائيلية ولا بالقمع السياسي للسلطة، وبدء العمل على تخفيف الحصار إنسانيا.
السيناريوهات الثلاث متشابكة رغم اختلافها، وقد تكون معركتنا الآن، في ظل استبعاد السيناريو الأول، هي في تجنب السيناريو الثالث، أو تقريبه قدر الإمكان من السيناريو الثاني. ورغم ما يبدو من استبعاد السيناريو الأول، لكن الأخير لا يستطيع ألا يتأثر من نتائج ما سيحصل، إذ أن كل تفاعلات وتداعيات مسيرة العودة، ستلقي بأبعادها وظلالها على الحالة النضالية في الضفة.
وبغض النظر عما سينتج، فقد عززت مسيرة العودة نموذج غزة المقاوم، وأضافت للبعد الرسمي غير المرتهن للسقف الإسرائيلي، البعد الشعبي الضروري والمرشح (أو بالأحرى الذي نريده مرشحا) كحامل أساسي للمرحلة القادمة. كما أنها كشفت، ليس فقط قوة الإرادة الفلسطينية الشعبية ضد المخططات التصفوية، بل أيضا مدى إصرار السلطة على عرقلة أي تراكم للقوة الفلسطينية، وأن احتكام السلطة لموازين القوى القائم، هو احتكام غير اضطراري، إلا بقدر ما يمنح شرعية لنهج سياسي معين، تراه السلطة ضروريا لبقائها كسلطة ولو على حساب ضرب النضال الفلسطيني والمصلحة الوطنية. كما أكدت مسيرة العودة، لمن ما زال يحتاج للتأكيد، العلاقة بين السلطة وقطعة الوطن المسماة غزة: السلطة لا تريد نجاح مسيرة العودة، كونها لا تريد أي مصلحة وطنية قد تكسب منها حماس نقاطا. هي تريد غزة إما بعد خضوع حماس أو بعد ثورة أهلنا في غزة على حماس، خلاف ذلك، تستطيع غزة وأهلها أن يذهبا إلى الجحيم.
بالتالي لا يكمن عدم نجاح السيناريو الأول، الذي قد يقلب موازين القوى، بسبب قصور فلسطيني ذاتي، بل يكمن في حسابات السلطة المفروضة قسرا وبالقوة على شعبها. شعبنا الفلسطيني الذي لا يعدم التضحيات ولا الطاقات النضالية، ولم يصل ولن يصل للتسليم بأقل من حقوقه الكاملة. نرى ذلك ليس فقط من خلال الهبات غير المتوقفة في القدس، وليس فقط من خلال الاشتباكات الأسبوعية في نعلين، بلعين، النبي صالح، كفر قدوم، والتي تتحول ليومية في حالات الهبات أو العدوان على غزة على حاجز قلنديا، بيت إيل، عطارة، بيت لحم، العيسوية، شعفاط، وغيرها؛ بل إننا نرى ذلك كروتين يومي يمضي ضمن يوميات الاحتلال العادية في آلاف الاعتقالات سنويا، والتي يصل معدلها لـ18 معتقلًا يوميا، على مدار 365 يوما متواصلة، مما أوصل عدد المعتقلين الإجمالي عام 2017 إلى 6742 معتقلًا.
كانت الضفة تستطيع على حد قول نشطائها ومناضليها تطوير نموذج "مسيرة العودة"، فعلى خلاف غزة، التي يضطر فيها المتظاهرون للتواجد على امتداد الشريط الحدودي الفاصل، تستطيع الضفة أن تطور فكرة الميادين، وتنظم عشرات نقاط التواجد في مختلف المدن والمخيمات والقرى الفلسطينية، أي عشرات الميادين غير المشتبكة بالضرورة مع الجيش، بل المتواجدة على بعد بضعة مئات الأمتار من الحواجز، وتفعيل تواجد مستمر من الحياة الاجتماعية والثقافية في تلك الميادين، الأمر الذي يستنفر الجيش والدولة برمتها ويعيد الاحتلال من حالة طبيعية إلى حالة عبء مزمن.
لكن وقع مسيرة العودة ليس فقط في مردودها السياسي وفي احتمالات تطور سيناريوهاتها المختلفة، بل إن وقعها عليه أن يكون أيضا في المعنى السياسي الذي تكشف عنه، كلا لا تكشف عنه، فهو جلي خارج العمى، لكنها تعرضه على المنصة مع كشافات ضوئية: لقد زادت مسيرة العودة من وضوح حالة الاستقطاب السياسي بين نموذج الضفة ونموذج غزة، فالانقسام الصعب هو ليس الانقسام على السلطة، بل هو الانقسام في الحالة السياسية ما بين الضفة وغزة، في حالة الوهن الشعبي العام التي أصابت الضفة جراء التمسك في السلطة، وفي الثقافة السياسية والوطنية التي هدمها هذا التمسك. لقد حولت السلطة النضال، من نضال ضد إسرائيل من أجل السيادة الوطنية، إلى "نضال" ضد الشعب من أجل السلطة.
لقد أحدثت السلطة الفلسطينية وبشكل مثابر وممنهج خلال السنوات العشر الأخيرة، نتيجة سياساتها القمعية والاقتصادية، عملية تدمير مثابرة في الروح والأخلاق والحالة المعنوية وفي أولويات الحياة اليومية، وأنتجت حالة من التنافر ما بين أولويات الحياة وأبجديات النضال، فبعد أن كان الهم اليومي جزءا من حالة نضالية تحت الاحتلال، أمسى الهم اليومي مضادا للحالة النضالية.
فهل يصل العقل المجرد إلى نتيجة مفادها أن الحصار والانقسام هو ما أنقذ الحالة الفلسطينية من الوقوع تحت هيمنة هذا النموذج؟ هل أنقذ الانقسام الحالة الفلسطينية من أن ترتهن برمتها إلى نموذج يحول الحياة إلى نقيض للنضال؟
من يريد أن ينتصر لغزة، عليه أن يشخص ثم يطرح ويعترف ثم يحسم بين هذين النموذجين، وينتصر لأحدهما، لا حياد في النضال الحقيقي. علينا أن نعترف إجلالا لمسيرة العودة، أن المصالحة الوطنية الحقيقية تأتي على أساس الحسم بين النموذجين، وليس على أساس التوفيق بينهما. وأن نعترف أيضا أن فشل محاولات المصالحة وخطاب المصالحة حتى الآن، التي حملها أولئك المعنيون بالمصالحة كمصلحة وطنية فلسطينية (وليس فشلها من قبل السلطة التي لا إرادة سياسية حقيقية لديها أصلا للمصالحة)، أنه بني على مساع توافقية، ولم يبن على مواجهة سياسية جريئة وواضحة مع النموذج السياسي الذي تمثله السلطة.
إن هذا الانفصام السياسي بين النموذجين هو ليس اختيار الشعب الفلسطيني، بل هو يخفي تحت ستار القمع وما سببه القمع من وهن، حالة من الإجماع الفلسطيني الوطني: نحن نريد لغزة أن تنتصر على الحصار والإجرام الإسرائيليين، ونحن نريد لنموذج غزة أن ينتصر في المشهد الفلسطيني الداخلي.
من يريد ذلك، عليه ألا يتجنب منطق أن انتصارنا لنموذج المقاومة الشعبية يتطلب الآن، إن لم يكن بالأمس، فتح مواجهة سياسية مباشرة مع السلطة والمقتتلين عليها، وكلما كان ذلك أقرب كلما كان أفضل، وعلى سيناريو "الفوضى" (فوضى الاقتتال على السلطة، أو حتى سيناريو الاقتتال المسلح) ألا يخيف أحدا، على العكس، الحسم الوطني قبل ذلك، يقلب المشهد ويضبط السيناريوهات القادمة ويضع لها بوصلة، ويخفف من نتائجها الكارثية.