صيحات غضب وموجات تكبير وأنفاس لاهثة من مشقة صيام اليوم التاسع من شهر رمضان المبارك، كانت كلها تختصر عزيمة الشباب الثائر في جمعة "مستمرون رغم الحصار" في أحد مخيمات العودة المنصوبة شمال قطاع غزة، متحدين قبل كل شيء رصاصات الاحتلال القاتلة وغازاته السامة التي تطلق من بنادق آلية ومن طائرات مسيرة عن بعد.
من خلف ذلك، كانت سيارات الإسعاف والطواقم الطبية تسارع الزمن في نقل من يسقط مصابا بطلق متفجر يمزق الأحشاء أو رصاص حي -بأحسن الأحوال- إلى أقرب المراكز الطبية، بينما كان المسعفون يتعاملون ميدانيا مع عشرات حالات الاختناق، وعدسات وسائل الإعلام المحلية والأجنبية توثق بالصوت والصورة انتهاكات الاحتلال على الهواء مباشرة.
ما سبق كان جزءا من مشهد جمعة "مستمرون رغم الحصار" وهي التاسعة على التوالي من مسيرات العودة وكسر الحصار، التي انطلقت في الثلاثين من شهر مارس/آذار الماضي على طول المناطق الشمالية والشرقية لقطاع غزة، بهدف تحقيق حلم العودة إلى أراضي الـ48 وللمطالبة بفك الحصار المفروض منذ أكثر من 11 عاما على سكان القطاع الساحلي وتأكيدا على تمسك الفلسطينيين بحقوقهم ورفضهم لما تسمى "صفقة القرن".
المشهد لم ينتهِ بعد، فسحب الدخان السوداء المنبعثة بكثافة من عشرات الإطارات المطاطية "الكاوتشوك" المشتعلة على طول مناطق التماس والممزوجة بغبار الأرض المصطلي بأشعة الشمس اللاهبة، كانت تعطي للشبان الثائرين فرصة لمناورة جنود الاحتلال وفق سياسة الكر والفر، محاولين نزع ما يمكن من السياج الفاصل ونصب سارية العلم الفلسطيني عند أقرب نقطة لتكتمل فصول حكاية التحدي والإرادة.
تبدأ الحكاية في كل يوم جمعة بعدما تؤدي جموع غفيرة صلاة الجمعة جماعة داخل مخيمات العودة المقامة في خمس نقاط رئيسة عند تخوم غزة الشرقية، وعقب ذلك ينطلق الشباب للتظاهر سلميا على مقربة من السلك الفاصل معززين بوحدات ميدانية تدعمهم بعجلات "الكاوتشوك" وأخرى مخصصة لإخماد قنابل الغاز المسيلة للدموع بوسائل بدائية ووحدة ثالثة تختص بقص السلك الفاصل.
ترجمة العنوان "مستمرون رغم الحصار" كانت حاضرة في كل تفاصيل مخيم العودة المقام قرب موقع أبو صفية الاحتلالي العسكري، شرق جباليا شمال القطاع، فهنا عجوز بلغ من الكبر عتيا جاء برفقة أحفاده للمشاركة في فعاليات الجمعة التاسعة، وتلك سيدة توشحت بالكوفية الشهيرة وقد اصطحبت معها طعام الإفطار لتتناوله مع جاراتها في المخيم.
وهؤلاء فتية في ريعان شبابهم حضروا متكئين على بعضم البعض رغم أنه لم يمضِ على خروجهم من المشفى إلا أيام قليلة إثر تعافيهم من إصاباتهم في ذروة أحداث المسيرة في الرابع عشر من الشهر الجاري.
ولكن لماذا حضر كل هؤلاء غير آبهين بمشقة الطريق في نهار رمضان الحار؟. يجيب عن ذلك الحاج أبو محمود رضوان بالقول: "جاء الصغير والكبير والشيخ والشاب إلى هنا ليقول للعالم إننا كفلسطينيين وفي غزة تحديدا نستطيع أن نصمد على الجوع والجراح مقابل أن نعيش أحرارا بكرامتنا، لذلك نحن هنا كي نطالب بحقنا في حياة كريمة بعيدا عن الاحتلال وحصاره، وفي حقنا بأرضنا المسلوبة عنوة منذ 1948".
وليس رضوان الوحيد من يؤكد على التمسك بإرادة الحياة بكرامة، فموجات التكبير والهتافات الحماسية لم تنقطع طوال مسيرة أمس ومنها "على القدس رايحين شهداء بالملايين"، "خيبر خيبر يا يهود جيش محمد بدأ يعود"، "من غزة طلع القرار ثورة شعبية حتى فك الحصار"، "بالروح بالدم نفديك يا أقصى"، وتلك تبرهن على أن الحشود الثائرة تتمسك بمطالبها المشروعة أيضًا.

