إن مشروعية النضال من أجل العودة إلى فلسطين كانت ولا تزال هاجسًا يسكن وجدان كل فلسطيني ثائر.. ومهما اشتدت المحن، ومهما عصفت بنا الكوارث والأنواء، تظل جذوة الثورة تشتعل في صدورنا ويظلّ الأمل الخالد ينتظر اللحظة المناسبة لتنطلق، فلقد هب الشعب الفلسطيني كافة، وأدرك الفلسطينيون أن التطرف السياسي لثنائي الصلف الأمريكي الإسرائيلي يجب أن يواجه بالدم والتحدي، وأن الجيل الرابع من شباب الثورة يقود اليوم مسيرة العودة وأنه يعبر حواجز الخوف والتردد ويتقدم بثبات وقوة ليتلقى الرصاص وليقاتل بحسم عبر الأسلاك الشائكة متحديًا كلّ مفردات الدمار والموت مؤكدًا للاحتلال وقياداته أن 70 سنة لن ترهق ذاكرته ولن تسلمه إلى الضعف والعجز والتردد.
ففي الوقت الذي كان الإسرائيليون، في اليوم ذاته، يحتفلون بنقل السفارة الأمريكية في القدس من دون أن يرف لهم جفن، أو يحسبوا حسابًا لمجلس الأمن، أو "لتحديد العلاقات"، تعمد القناصة الإسرائيليون من أعضاء القوات الخاصة القتل في الشباب الفلسطيني دون رحمة رغم أن المتظاهرين كانوا يضمون مئات الأُسر التي حرصت على اصطحاب أطفالها الصغار يحملون أعلام فلسطين في تظاهراتهم السلمية، وما يؤكد سبق إصرار جيش الاحتلال على قتل الشباب الفلسطيني أن جنديًا إسرائيليًا واحدًا لم يخدش في هذا الصدام الدموي.
لقد تركزت المسيرات في غزة، ولكنها لم تكن لوحدها، بل خرجت في بقية الضفة الغربية.. ولا شك أن الواقع الموضوعي للاجئين في غزة والحصار سبب أساسي في هذا التركز، فضلا عن قرار إسرائيلي على ما يبدو بتركيز القتل للمتظاهرين على حدود غزة، مع تذكر أن الضفة الغربية شهدت هبة 2015/ 2016، و"تضامنت" غزة، وأن القدس شهدت هبة البوابات، تموز 2017، و"تضامنت" الضفة وغزة، وإذا كانت الوحدة الوطنية راسخة في نفوس شعبنا في الضفة وغزة، فلماذا تفتقد الحركة الفلسطينية للوحدة مع توافر جميع عناصر النضال خاصة في مسيرة العودة؟ والجواب هو طبعا "الانقسام".
والواضح أن الشعب الفلسطيني يُصرّ على استعادة حقوقه مهما يكُن عدد الفلسطينيين الذين يسقطون في معارك المواجهة مع الاحتلال، خاصة أن الفلسطينيين يعانون ذُل الاحتلال وسوء الأوضاع الاقتصادية وغلبة الإحساس باليأس والإحباط على الجميع، ويذهبون مختارين إلى ساحة المواجهة مع الإسرائيليين، لا يخشون الصدام أو الموت، ولا يريد الإسرائيليون أن يفهموا عُمق التطور الذي طرأ على الشخصية الفلسطينية خاصة الشباب منهم، وجعلهم يفضلون الاستشهاد على الحياة، ويبتكرون ألوانًا من الانتقام ضد الإسرائيليين مثل الطعن بالسكاكين في الشوارع ودهس الناس على أرصفة الشوارع بالسيارات، وربما يرى الفلسطيني وقد أهدر الإسرائيليون أمنه وكرامته وإنسانيته أن هذا الاختيار أفضل كثيرًا من حياة الذُل التي يعيشها، والواضح أن هذا التوجه يكبر وينتشر حتى تكاد تكون له الغلبة بين الشباب الفلسطيني، ومع الأسف تزداد إسرائيل تعسفًا بدلًا من أن تغير مسلكها بما يزيد الوضع سوءًا، خاصة أن الإسرائيليين لن يقدروا على إبادة الشعب الفلسطيني مهما أعملوا فيه من قتل، وبالطبع فإن الزحام والفقر والبطالة والعنصرية الكريهة وسوء الأحوال الاقتصادية وانعدام الأمل في غدٍ أفضل يُشكل عوامل أساسية في صورة حالكة السواد.
إن ما ينقص مسيرة العودة ليس تقاسم الزاد والغنائم وإنما ينقصها الوحدة الوطنية وإنهاء الانقسام، ولماذا لا نكون يدا واحدة؟ فلا يكاد يوجد شعب تحرر من احتلال، خصوصًا بوحشية الاحتلال الصهيوني، من أن يكون موحدًا، ومن دون أن يدفع ثمنًا مُؤلمًا، ومن دون أن يعني هذا أن وقوع الشهداء، مسموح مجانًا، أو أنه هدف، أو ميدان لتنافس الفصائل، بخصوص نصيبها من الشهداء، إلا إذا كان الشهيد قد أصابته الشهادة، أو أصابها، وهو يحقق إنجازا وطنيا فرديه بدمه وروحه وأهله، وبعيدا عن كل التناقضات والمناكفات والانقسام الذي يعتبر عدونا الرئيس، فإن لدى شعبنا طاقات وقدرات وعبقريات نضالية، تؤكد أن النصر قادم وأكثر ما يثير الوجدان ويسمو بالخيال والانفعال منظر تلك الخيام المتناثرة من رفح إلى بيت حانون، إنها منصوبة في العراء لتحمل رسالة للاحتلال مفادها أننا هنا باقون، وسنظل في حمى هذه الخيام البسيطة نتخذها قاعدة انطلاق لنضال يومي لا ينتهي.