قائمة الموقع

في حياة الإعلامي مصطفى عبد الهادي.. كلمة وابتسامة أقوى من التّرسانة!

2018-05-19T08:20:16+03:00

يهرع ابن الخامسةِ مصطفى عبد الهادي من مخيم خانيونس برفقة عائلته إلى أحراشِها، ويحتمون تحت أغصان الشّجر، ومن فوقه طائرات الاحتلال تزأر في سماء المنطقة ذهابًا وإيابًا، يضع إصبعيه بإذنيه ويغمض عينيه مفجوعًا مما يحدث، لقد أفاقَ على عدوانٍ لا يعرف معنى الرّحمة في عام النّكسة 1967.

كانت تلك هي اللقطة الأولى في تشكيل الوعي الرافض للاحتلال لدى مصطفى، الذي كبر شيئًا وصار طالبًا متمرّدًا.

ففي عمر السّابعة يتصرّف المُدرّس معه بطريقةٍ بدت في نظره ظالمة، وهو الطالب المؤدّب المتميّز، فيهبّ في وجهه كما الشّبل ويركض مندفعًا قاصدًا الخروج من المدرسة، فيما تنفجر من حنجرتِه كلمة "لاااا.."، وكأنه يقول لا للهزيمة.

ذلك التّمرّد فتح نافذة جديدة في عينيّ مُدرّسه عبد الحميد سلامة تطلّ على مصطفى فأولاه فيما بعد اهتمامًا خاصًّا في التدريس والمعاملة والرياضة أيضًا ليكون صاحب فضلٍ كبيرٍ في حياة المراسل لقناة العالم مصطفى -55 عامًا- والذي نعته الكثيرون بأنه مراسل المقاومة وآخرون قالوا بأنه "يلقي على المحتلّ بلسانِه الإعلامي قذائفًا".

فضل الوالد

وللابتسامةِ أعمق تأثير في حياتِنا، ففي بعض الأحيان تنشل الغريقَ من بحر غرقِه، وتشفي العليل من مرضِه، إنها كالسّحر في المفعول، بل هي أحلى من السُّكَر حين تخطَ طريقًا طويلًا من الأمل، ويا لروعتِها حين ترتسم على شفتي والدٍ حنون.

يروي عبد الهادي وقد اشتاقت عيناهُ بلمعتيهما وكلماتُه باندفاعها لوالدِه فيصل عبد الهادي الغائب عن الدّنيا :" ابتسم والدي ابتسامةً واسعةً وربتَ على كتفي ثم سألني بحبّ:" شو؟ بدّك تصير مذيع يا مصطفى ؟ " .

وكان مصطفى يستعدّ للمشاركةِ في الإذاعة المدرسيةِ حين كان طالبًا في المرحلة الابتدائية، وطلَب من والدِه حينها أن يُدقِّق ويُعدّل له ما يحتاج لتدقيقٍ وتعديل في الموضوع. يُعبّر:" بفضل تلك الابتسامة، كسرتُ حاجز الخوف مُبكِّرًا، وشعرتُ بالفخر بقدراتي على بساطتِها آنذاك، وما زالت حتى اليوم تخطّ طريقي وطريق أولادي من بعدي بإذن الله".

ويقول:" لقد باتت كلماته وابتساماته وملاحظاته كالذخيرة والسلاح أحتفظ به في مستودع قلبي وذاكرتي حتى اليوم، وما يزال صدى تلك الكلمات يتردّد في عقلي، فأدعو لوالدي بالرحمة والغفران ممتنًا".

عنفوان الشباب

وفي بداية العشرين يخرج عبد الهادي من بيتِه إلى الجامعة الإسلامية وقد لفّ الكوفيَّة على عنقِه وكتفيه، فهي صاحبتُه التي لا يفارقُها للحظة، كان ناشطًا في حركة الشّبيبة، فيما عنفوان الشّبابِ يتدفّق وطنيّةً وثورةً من أنفاسِه المتسارِعة، وعروق ذراعيه البارزة، وقلبِه النّابض بحب فلسطين.

لم يُلقِ يومًا نظرةً على كتابٍ، ولا اهتمّ مرةً لاختبار ولا لصبيةٍ جميلةٍ في عزّ الشّباب، بل كلّ اهتمامِه كان بالعمل النقابيّ والوطني والثوري.

لاحظ والدُه اندفاع ابنِه الزّائد على حساب الجامعة والدّراسة، فقدّم له تلك الكلمات، وكان آنذاك رئيسًا لمجموعةٍ فدائيةٍ في قوات التحرير العربية.

"اسمع يا ابني، كل أنواع النِّضال مهمّة، ولكن لتجعل الأولويةَ في عمرك هذا لشهادتك الجامعية ، فهي النضال الأهم في وجه المحتلّ، وهي التي ستُنظِّم تفكيرَك وستجعلك قادرًا على وزنِ الأمور لاحقًا، فبالشهادة ستكون أكثر وعيًا وقدرةً على الدفاع عن فلسطين، ستكون بها محامي دفاع والأخطر بالنسبة لدولة الاحتلال".

على الحدود الشرقية لمنطقة دير البلح جنوب القطاع، من عام 2004 حيث لم يكن الإعلام يصل لتلك المناطق على الإطلاق، يقف الإعلامي مراسل قناة العالم مصطفى عبد الهادي -55 عامًا- ممسكًا السّماعة مُستعدًّا للتصوير، ومن أمامه دبّابة "ميركافا" تحرس سبع جرافاتٍ كانت تقتلع أشجار الزيتون، كما لو أنها تقتلع الأوردة من جسدِه.

يصف لفلسطين:" تحركّت الدبّابة منطلقةً باتّجاهنا من أجل إرعابِنا، فتدارَيْنا خلفًا، ثم سرعان ما عُدنا، فنحن لم نأتِ بلا هدف، حينها لم يرق الأمر للجنديّ داخل الدبّابة، ففتح برج الدبّابةِ من أعلاها وصوّب قنّاصته "M16" تجاهي، لكن شعرةً في بدني لم تهتزّ".

ويقول:" كانت الدروع البشريٌّ من أصحاب الأرض حولي تؤنسني، وكنت لا أرى نفسي أفضل منهم في شيء، فغطينا الحدَث وصوّرنا كلّ الحكاية المؤلمة وأوصلنا الصّورة كاملةً، في حين توقّفت الجرافات عن عملِها وانسحبَت بالكامل".

فكان كلما جاءت الجرّافات لتقتلع الأشجار يتّصل أصحاب المنطقة بالمراسل عبد الهادي ليخبروه بذلك، يعلق:" هنا أتذكّر كلمةَ والدي حين أخبرني أن الشهادةَ ستجعل منك محامٍ للدّفاع عن وطنِك، وهي أحد أنواع النضال المهمّة".

وفي مرحلة الشباب ذاتِها استُدعيَ عبد الهادي للتحقيق من قبل مخابرات العدوّ، فسبقَه والدُه بكلمة وزَنها آنذاك وما يزال بالذّهب، حين قال له وفق عبد الهادي:" أريدك أن تفهم شيئًا واحدًا يا مصطفى، فابنُ الشعب، كل الشعب يخبّيه، والجاسوس مين يخبّيه ووين يخبيه؟!!"، ويقصد أن يحذّره من السقوط في وحل العمالة، حيث كانت تلك الكلمات سندًا له حين وقف أمام المحتل الإسرائيليّ.

ثمّ مدّد جسده على الأرض ووضع رجلًا على الأخرى، وأغمض عينيه مبتسمًا وزادَه بالقول:" عِش هكذا يا بنيّ، اترك بابك مفتوحًا وامشِ مستقيمًا تكُن أبدًا مرتاحًا، فمن اعترضَك وجَد ذلك الحذاء يقابله". ومنذ استمع عبد الهادي لتلك الكلمات التي خطّت طريقَه وهو ينطلق متوكّلًا على الله فهو حسبُه، ينير دربَه، لا يخشَى شيئًا ولا أحدًا وفق قولِه.

اخبار ذات صلة