بمحاذاة السياج الفاصل شرق مدينة غزة، يمكن من كثب رؤية حشود بشرية سلمية متزايدة، يواجهها قناصو جيش الاحتلال الإسرائيلي، وطائرات محملة بقنابل الغاز، بينما كانت الولايات المتحدة تنقل سفارتها إلى مدينة القدس المحتلة.
الرصاص الحي استهدف الجميع دون سابق إنذار، والقنابل انهمرت فوق رؤوسهم من الجو، بينما غطت سحب سوداء سماء المنطقة نتيجة حرق إطارات سيارات "كاوتشوك".
هذه منطقة يريد الاحتلال لها أن تكون خالية سوى من دباباته، طائراته، عرباته العسكرية المصفحة، لكن الفلسطينيين أرادو خلاف ذلك.
منذ 30 مارس/آذار الماضي انطلقت مسيرة "العودة الكبرى" السلمية في قطاع غزة، وارتقى وأصيب آلاف الفلسطينيين، بينهم صحفيون.
عجت المنطقة بالمشاركين السلميين في المسيرة، وبدت بؤرة بشرية لها هدف واحد هو: عودة اللاجئين الفلسطينيين إلى أراضيهم التي هجروا منها قسرًا عام 1948. لم يستخدم هؤلاء سلاحا، لكنهم امتلكوا الإرادة.
استخدمت سلطات الاحتلال أساليب الدعاية المضادة للمسيرة السلمية. ليس ذلك فحسب، بل استخدمت العنف والأسلحة أيضًا.
لكن ذلك لم يمنع مئات الآلاف: صغارا، كبارا، نساء، رجالا، من المجيء ليقولوا أمام دبابة كانت أو عربة مصفحة أو غيرها: القدس عاصمة فلسطين، والعودة آتية لا محالة.
"نبشركم بقص السلك الرئيس.."، قال شاب متحمس لإزالة السياج الفاصل شرق غزة. كانت مكبرات الصوت تصدح في المكان، وتنقل الأنباء على الملأ أولا بأول، جنبا إلى جنب الأناشيد الثورية والحماسية، وهو مشهد كان حاضرا في الانتفاضات المتلاحقة.
بدا الحشد البشري الهائل، كأنما هو لوحة زهور، يشكلها المشاركون السلميون، ويلطخها الاحتلال بالعنف والدم.
لا حديث للناس هناك إلا عن العودة، وعن قراهم التي هجرت العصابات الصهيونية منها آباءهم أو أجدادهم سنة 1948 بقوة السلاح.
يصفون هذه القرى كأنما يحفظونها عن ظهر قلب، ويحملون مفتاح العودة، وكأنما يشتمون رائحة ترابها، ويرون تفاصيلها بأم أعينهم.
يشدد الفلسطينيون على أنهم سيرجعون إلى ديارهم المحتلة حتى إن واجههم جيش الاحتلال بالرصاص. إنهم يحملون علم وطنهم فلسطين، ويرفعونه على أعمدة عالية، ليوصلوا رسالة العودة واضحة جلية، فهذا ليس علم غزة أو الضفة أو القدس، بل علم فلسطين كلها بما فيها غزة والضفة ويافا وحيفا والقدس وسائر المدن المحتلة.
وكانت روح التكافل والتعاون تسري في نفوس الفلسطينيين هناك. الجميع على أهبة الاستعداد لتقديم المساعدة لمن يحتاجها.
لم يهدأ صوت سيارات الإسعاف التي كانت تروح ذهابا وإيابا لنقل الجرحى والشهداء، وشاركت في ذلك سيارة لشرطة المرور.
"مليونية العودة"
الناظر من تلك المنطقة إلى الأراضي المحتلة سنة 1948 خلف السياج الفاصل، تهفو عيناه وقلبه إلى العودة، لكن حواجز عسكرية احتلالية تمنع الفلسطينيين، أصحاب الأرض الأصليين، من دخولها.
يقيم الغزيون هناك الصلاة، ويقولون: "الله أكبر"، ويرددون هتافات: "الموت لـ(إسرائيل)"، و"لبيك يا مقاومة".
ويعلق الفلسطينيون لافتات مكتوب عليها "مليونية مسيرة العودة"، وغيرها.
يزيد الاحتلال استخدام العنف، وتزيد المسيرة صمودا. محمود الفيومي (17 عاما) هو شاب أصيب في الجمعة الأولى لمسيرة العودة، برصاصة متفجرة، وعاد أمس للمشاركة مجددا في فعالياتها السلمية.
يقول لصحيفة "فلسطين": "ستبقى المسيرة مستمرة حتى يندحر الاحتلال الإسرائيلي من الأراضي الفلسطينية ومن المسجد الأقصى"، مضيفا: "القدس عاصمة فلسطين".
لا يحقق الفلسطينيون حلم قادة الاحتلال وجنوده بالهرب رغم سيل الرصاص، بل إنهم باقون في أرضهم، كما يقول "أبو محمد" (56 عاما) الذي فضّل عدم كشفه اسمه كاملا.
"هؤلاء الفلسطينيون طردتهم العصابات الصهيونية من أرضهم، وهم يريدون العودة إليها، وعلى (الإسرائيليين) الذهاب إلى الدول التي جاؤوا منها"؛ يضيف لصحيفة "فلسطين"، على بعد مئات الأمتار من السياج الفاصل.
يوضح "أبو محمد"، أن الاحتلال الإسرائيلي يستخدم العنف لأنه "مفلس".
الشباب هم شريحة مهمة من المشاركين في المسيرة السلمية، يقول محمود قنن (19 عاما)، إن استخدم الاحتلال للعنف كعادته يرمي إلى الاستمرار في الاستيلاء على فلسطين، لكن ذلك لن يوقف الشباب.
رفيقه في المسيرة سامح بدوي (18 عاما)، يقول: "لا بد أن نبقى صابرين وصامدين إلى أن تتحرر المجدل واللد والرملة وكل المدن. لا يجوز أن نتراجع حتى لو استمروا في إطلاق الرصاص".
حتى النساء والأطفال يشاركون في المسيرة، جنبا إلى جنب الرجال.
من هؤلاء حذيفة الجعبري (13 عاما)، الذي كان على بعد مئات الأمتار من السياج الفاصل، قائلا إن المسيرة مستمرة لأن "الإسلام أمرنا بالصبر والتحمل".
ولئن سأله أحدهم: "ألا تخشى أن تصيبك رصاصة قاتلة؟"، يجيب: "قدر الله، لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا".
الجعبري، رغم كونه طفلا يقول كلاما "كبيرا": "الوحدة تمكنك من أن تقوم بذلك (الاستمرار بالمسيرة السلمية)، ويكون الشعب متماسكا".