ضمن سياق حديث صحفي رد الدكتور موسى أبو مرزوق نائب رئيس المكتب السياسي لحماس على مقدم البرنامج في قناة "الغد العربي" بأن الحل الفيدرالي قد يصلح للحالة الفلسطينية، وما إن أذيع اللقاء حتى بدأت ردود الأفعال الرافضة أو الصامتة لما قاله أبو مرزوق، دون البحث والتأمل والتفكير فيما قاله، حتى لو كانت زلة لسان كما وصفها حسن عصفور، وهو ما أكده أبو مرزوق في بيان يوضح أن الموقف لا يعبر عن أي من مؤسسات حماس.
لاشك أن واقعنا الفلسطيني المنقسم على نفسه، والذي يعاني من أزمة ثقة بين أغلب مكوناته لا يحتمل أن يفاجأ بتصريحات كهذه، لذا إن التصريحات الصادمة لابد من الإعداد لها جيدًا، وأن تناقشها جيدًا مكونات الطيف الفلسطيني كافة.
وحتى نفهم صوابية الطرح من عدمه _وأقصد طرح الفيدرالية_ لابد من تحليل البيئة الإستراتيجية للواقع الفلسطيني، وحصر الخيارات كافة أمام حماس وفتح ثم الحكم على ما طرحه أبو مرزوق.
أولًا: تحليل البيئة الإستراتيجية للواقع الفلسطيني
بعد فوز حماس بالانتخابات التشريعية عام 2006م فرض الاحتلال حصارًا على حكومتها، وبعد سيطرتها على قطاع غزة أعلن القطاع كيانًا معاديًا وشدد حلقات الحصار، فزادت الأزمات: (الفقر، والبطالة، والكهرباء، وملوحة المياه، وإغلاق المعابر، وعجز الموازنة العامة، وعدم قدرة الحكومة بغزة على صرف الرواتب، ما دفعها إلى زيادة الضرائب التي ترهق المواطن).
في الضفة الغربية زادت الحواجز والمشاريع الاستيطانية، وانفرد الاحتلال بالسلطة الفلسطينية، وفرض معادلة سياسية تضر بالمصلحة الوطنية، وتخالف قرارات المجلس المركزي، وجوهر المعادلة يقوم على: تنسيق أمني بين أجهزة الأمن الفلسطينية والصهيونية = ديمومة واستمرارية لكيان السلطة الفلسطينية، وضمانًا لتدفق المساعدات والمنح والرواتب والرتب.
فشلت العديد من جهود وجولات المصالحة الوطنية في جسر الهوة، وتجاوز معضلة الانقسام، وتشكيل حكومة وحدة وطنية تكون قادرة على إنهاء عواقب الانقسام كافة، وذلك لأسباب عديدة، منها على سبيل المثال:
1. رفض العامل الأكثر تأثيرًا _وهو كيان الاحتلال_ للمصالحة، ويدعمه في ذلك بعض الدول الغربية المانحة.
2. رفض حركة حماس الاستجابة لشروط الرباعية، وفي الوقت نفسه تريد أن يعترف بها العالم.
3. إصرار الرئيس محمود عباس على وحدانية السلطة ووحدانية السلاح، وهو ما ترفضه فصائل المقاومة، التي يصل تعداد تشكيلاتها المسلحة إلى أكثر من خمسين ألف مجند، لا يختلفون كثيرًا عن الجيوش النظامية من حيث الإعداد والتدريب.
4. ملف الموظفين الذين عينتهم حماس (45 ألف موظف).
5. أزمة الثقة بين الطرفين، وتشكل جماعات مصالح في قطاع غزة والضفة الغربية تشكل سدًّا منيعًا أمام فرص نجاح المصالحة الوطنية.
ما سبق سرد لبعض من الأسباب التي تقف عائقًا أمام تشكيل حكومة وحدة وطنية، ومع ذلك إن الخيار الأمثل يتمثل في تشكيل تلك الحكومة، وحتى ننجح في ذلك يبقى السؤال المطروح: ما الخيارات التي تحفظ كرامة المواطن، وتضمن عدم تكرار السيناريو الأسود المتمثل بالاقتتال والفوضى والفلتان؟
سأعمل على حصر الخيارات كافة، وأترك للقارئ ترجيح أفضل الخيارات وأقلها تكلفة.
1. تشكيل حكومة وحدة وطنية: لا أحد ينكر أن هذا هو الخيار الأمثل الذي يؤكد وحدة شعبنا ووحدة ترابه، لكن منذ عشر سنوات حركتا فتح وحماس تحاولان الوصول إلى هذا الهدف، فيبدأ الشيطان بالظهور عند مناقشة التفاصيل، مثل: برنامج الحكومة، وموظفي غزة، والوزارات السيادية، والمقاومة والسلم ... إلخ.
2. خيار الفيدرالية:
لقد طرحت شخصيًّا هذا الخيار عام 2010م في مقال كتبته بعنوان: "الحل الأمثل"، وأقتبس من المقال ما يلي: "إن الواقع الفلسطيني يتطلب حوارًا جادًّا يفرز نظامًا سياسيًّا جديدًا يقوم على الفيدرالية حلًّا مؤقتًا، بحيث تحكم قطاع غزة حكومة خدمات حمساوية بمشاركة سياسية من باقي القوى والمجتمع المدني، أما الضفة الفلسطينية فيحكمها حكومة خدمات فتحاوية بمشاركة سياسية من باقي القوى والمجتمع المدني، ويكون هدف الحكومتين تقديم أفضل الخدمات للمواطن، وتشكل حكومة مركزية تمثل فلسطينيي الداخل والشتات يرأسها الرئيس عباس، ويقع على كاهلها الواقع السياسي والمفاوضات، والعلاقات الدولية، ومن الممكن أن تشارك فيها بالتوافق كل القوى الوطنية والإسلامية ومؤسسات المجتمع المدني، وتحمل برنامجًا سياسيًّا معتدلًا يتوافق عليه الجميع، وقد تكون وثيقة الوفاق الوطني من الوثائق التي تشكل مرجعية هامة لبرنامج الحكومة المركزية، وتخضع الحكومة المركزية لرقابة من المجلس الوطني بعد إصلاح مؤسسات منظمة التحرير الفلسطينية، ودخول حركتي حماس والجهاد الإسلامي إلى صفوفها، وأن يستمر الواقع الجديد حتى زوال الاحتلال، وبعدها نستطيع أن نجري انتخابات رئاسية وتشريعية، وأن نتوافق على نظام سياسي فلسطيني يتوافق مع طبيعة المرحلة الجديدة".
هذا الطرح يضمن بقاء مؤسسات الوطن موحدة، ويعيد الاعتبار لمنظمة التحرير، ويراعي طبيعة موازين القوى على الأرض، ويضمن بالعمل المشترك تعزيز الشراكة من الجميع، والأهم من ذلك أنه يساهم مساهمة كبيرة في رفع الظلم عن شعبنا في قطاع غزة، إذ سيكون هناك توزيع عادل للموارد المالية بين الضفة والقطاع.
3. خيار تسليم حماس للسلطة:
يطالب بعض حماس بالتفرغ للمقاومة والخروج من الحكم نهائيًّا، وأن تتمكن حكومة التوافق الوطني من إدارة الأمور في غزة، وهذا سينهي أغلب المشاكل التي تعصف بالقطاع، لاشك أن ذلك سينهي العديد من أزمات القطاع، ولكن في المقابل من يتبنى هذا الطرح عليه أن يتأمل الواقع بالإجابة عن التساؤلات التالية:
أ. كيف ستمارس السلطة عملها _ومنه التنسيق الأمني_ في قطاع غزة في ظل الوجود المكثف لفصائل المقاومة المسلحة؟، وكيف ستكون العلاقة بينهما؟، وما احتمالات تفجر الأوضاع بينهما؟، وما عواقب ذلك على حالة الأمن والاستقرار في قطاع غزة وعلى النسيج المجتمعي؟
ب. ما موقف (50 ألف) موظف عينتهم حماس يعيلون ربع مليون مواطن؟
ج. كيف سيكون المشهد لو أخذ مواطن بالثأر ممن قتل نجله في الأحداث المؤسفة في يونيو/2007م، أو لو اتخذت إحدى المحاكم قرارًا باعتقال قيادي من المقاومة على خلفية الأحداث التي حصلت؟
الأسئلة طويلة ولا تنتهي، فخيار الإقصاء يولد التطرف والتشرذم والضعف للنظام السياسي الفلسطيني.
4. خيار انفصال غزة عن جسد الدولة:
أيضًا هناك من ينادي بهذا الخيار، ويتمثل في التوافق بوساطة طرف ثالث مع الاحتلال على العودة إلى خطوط الهدنة، وتوسيع قطاع غزة، وإقامة كيان سياسي مستقل فيه.
هذا الخيار يخدم المصالح الصهيونية، وبذلك سيعمل الاحتلال على جلب الاعتراف به، وسينتهي الحصار، ولكن في المقابل سينتهي المشروع الوطني.
الخلاصة:
بات من الواضح أن العقل الفلسطيني ينقسم إلى جزءين: الأول لتبني الموقف الحزبي، والثاني للتفكير والتأمل، أغلب التفاعلات والعمليات تحدث في الجزء الأول _يا للأسف!_ فتخرج المواقف متطابقة مع الرؤية الحزبية بعيدًا عن التفكير والتأمل، ومن هنا انطلقت عاصفة من الانتقادات لتصريحات موسى أبو مرزوق عن الفيدرالية، دون أن يجلس أحد على طاولة الحوار للبحث في الخيار، ومعرفة حسابات الربح والخسارة، واتخاذ القرار اللازم لدعمه أو رفضه.