فلسطين أون لاين

​"معمول" معمول على الحدود

...
تصوير / ياسر فتحي
غزة - أدهم الشريف

مساءً، قرب الحدود الشرقية الفاصلة بين قطاع غزة والأراضي الفلسطينية المحتلة إبَّان نكبة عام 1948، لا الزمان ولا المكان يناسبان ضعاف القلوب أو من ليس لديهم حس التحدي والصمود.

ومع اقتراب موعد غروب الشمس، بدا المشهد موحشًا للغاية في نقطة تجمع مسيرات العودة الكبرى وكسر الحصار عند موقع "ملكة" شرق مدينة غزة.

لقد حل الظلام بعد أن جرَّت الشمس ثوبها الذهبي إلى الأفق البعيد.

آنئذ، لم يظهر شيء يشد الانتباه إلا لهب ناري بدت ألسنته واضحة وهي تخرج من فرن مشتعل كانت سيدة فلسطينية تقف أمامه.

"إنه المعمول"، قالت إسراء فراونة، في العشرينات من عمرها، وهي تدفع بيديها إلى داخل الفرن الحديدي، طبقًا من المعدن وضعت بداخله عشرات القطع من الحلوى المشهورة محليًا وتحظى بأهمية تراثية فلسطينيًا.

تنحدر إسراء من مدينة يافا الواقعة في شمالي فلسطين المحتلة، هُجّر أهلها إلى قطاع غزة إبان النكبة، واختارت هذه المرة ومجموعة من فتيات فريق "سنابل" التطوعي، الاثنين الماضي، ظِل خيمة أقيمت قرب السياج الفاصل لصناعة الحلوى، في مشهد يعيد للأذهان خيام الأجداد المهجرين قسرًا من أراضيهم المحتلة.

كنّ على مرأى من جنود جيش الاحتلال الإسرائيلي الذين يطلون من خلف ثكنات عسكرية محصنة وتلال رملية عالية أقيمت خلف السياج؛ بقناصات ترصد كل دبةٍ في المكان.

كانت نظراتهن تشي بفخرٍ كبير وهن يصنعن المعمول، ويملأن وعاءً تلو الآخر لإطعام المشاركين في مسيرات العودة الكبرى وكسر الحصار التي انطلقت في الذكرى الثانية والأربعين ليوم الأرض الموافق 30 مارس/ آذار الماضي.

وتحولت الواجهة الشرقية لقطاع غزة إلى قبلة المتظاهرين سلميًا في خمس نقاط تجمع للمسيرات تمتد من الشمال الشرقي للقطاع حتى أقصى جنوبه.

لكن ارتباك جنود الاحتلال من هؤلاء المتظاهرين دفعهم إلى قتل أكثر من 30 منهم في ثلاثة أسابيع، بينهم أطفال وصحفيون، وإصابة ما يزيد على ثلاثة آلاف آخرين بجروح مختلفة بعضهم في حالة الخطر الشديد.

وتدرك فراونة جيدًا أنها قد تكون رقمًا بين هؤلاء، لكنها تبدو غير مبالية باعتداءات قناصة جنود الاحتلال على المتظاهرين السلميين.

وتقول: إن "إطلاق النار على العزل هنا أمر نعهده من جنود الاحتلال، ولا أخاف نيرانه وجئت أقاوم هؤلاء الجنود سلميًا".

وتجلى عليها الاطمئنان وقد تعلقت عيناها بالأراضي المحتلة، وأظهرت استعدادًا للصمود أمام اعتداءات جنود الاحتلال على النساء والرجال والأطفال في شرق غزة.

وهو ما يبدو واضحًا أيضًا على معالم إسراء العرعير، تلك الفتاة التي امتلكت براعة في صناعة المعمول جعلتها أسرع من أي واحدة من الفتيات اللاتي كنّ في خيمة صناعة الحلوى.

وتحدثت العرعير بصوت قوي للزوار عن طريقة صناعة "معمول العودة"، كما أسمته.

وقالت العرعير: "اعتدت على صناعة هذه الحلوى في بيتنا؛ لكنني جئت اليوم إلى هنا تحديًا للاحتلال ولتصل رسالتنا وللعالم بأننا شعب حر يستحق العيش بكرامة".

"اليوم، نقاوم الاحتلال من خلال صنع الحلوى والصمود ونحن على بعد أمتار من أراضينا المحتلة التي نتمسك بها ولن نتخلى عنها".. قالت أيضًا وهي تشير إلى سهول خضراء تمتد على مدى البصر وتقع خلف السياج الفاصل الممنوع على الغزِّيين تجاوزه أو الاقتراب منه.

قرابة الساعتين أمضتهما النساء والفتيات في صناعة المعمول قبل أن تمسه أوار نيران الفرن الحديدي، ليصبح جاهزًا لتقديمه للمواطنين، الذين ما إن اشتموا رائحته حتى جاؤوا لتناوله وتذوّق طعم العودة فيه؛ وقد تدفقوا من الخيام المقامة قرب الأراضي المحتلة إسرائيليًا منذ 70 سنة مضت لم تنسِهم حقهم في ديارهم التي هجروا منها قسرًا.

كان لسان حالهم يقول إنه مثلما كان غروب شمس ذلك اليوم دليلا على أن لكل شيء نهاية، فإن للاحتلال الإسرائيلي نهاية ستشرق بعدها شمس اللاجئين بتحقيق حلم العودة إلى فلسطين.