قبل 24 عامًا، وفي الثالث من حزيران/ يونيو عاد محمود وأشقاؤه الثلاثة إلى منزلهم في بلدة عناتا الواقعة شمال شرق مدينة القدس المحتلة، وقد أنهكتهم أعمال الحصاد في "البيدر"، لم يكن عرقهم قد جفّ عن جباههم عندما طوقت قوات الاحتلال منزل العائلة واقتحمته بقوة السلاح لتقيد الأشقاء الأربعة وتعصب أعينهم.
تستذكر الحاجة عائشة "أم محمد" ذاك اليوم وكأنه بالأمس، حين صرخت بأعلى صوتها على ضابط الاحتلال الذي يقيد أبناءها: "دفعنا الأرنونا (ضريبة يفرضها الاحتلال) اتركهم دفعناها"، ولم تكن تعلم بأن هذه "الضريبة" ليست هي السبب بالاقتحام إنما المستهدف هو نجلها محمود موسى عيسى.
ولد الأسير عيسى في 21 أيار/مايو 1968 وترعرع في بلدة عناتا بالقدس المحتلة، ودرس المرحلة الابتدائية والإعدادية في مدرسة ذكور عناتا ثم انتقل إلى المدرسة الرشيدية لإكمال تعليمه الثانوي، ليلتحق بعدها بجامعة القدس بكلية الشريعة وأصول الدين، وانضم حينها إلى الكتلة الإسلامية –الإطار الطلابي التابع لحركة المقاومة الإسلامية حماس– ولكن بسبب ملاحقات الاحتلال لم يستطع أن يكمل تعليمه الجامعي، فانتقل إلى معهد آخر وحصل على شهادة الدبلوم في تخصص المختبرات الطبية.
وشغل عيسى منصب رئيس تحرير صحيفة صوت الحق والحرية والتي كانت تصدر من مدينة أم الفحم في الداخل الفلسطيني المحتل.
تقول والدة الأسير محمود عيسى لصحيفة فلسطين، "عاد محمود وإخوانه الثلاثة من البيدر بعد صلاة العصر بساعتين تقريبًا، وما إن جلسوا حتى هاجم الاحتلال المنزل وهددوا بتحطيم الأبواب والنوافذ في حال أننا لم نفتح الباب".
وتضيف أم محمد: "فتح سعيد –شقيق الأسير– باب المنزل وإذ بعدد كبير جدًا من قوات الاحتلال الخاصة ومخابراته تقتحم المنزل وتنتشر في جميع الغرف، ثم قيد أحد جنود الاحتلال أبنائي الأربعة وأعصبوا أعينهم وأجلسوهم على الأرض عند باب المنزل".
بعد تفتيش وتحطيم وخرق بالجدران وتحطيم لأثاث المنزل، اقتاد ضابط الاحتلال الأشقاء الأربعة وأبلغ والدتهم بأنهم معتقلون وعليها أن تبحث عن محامٍ "شاطر" ليساعدهم في الخروج من السجن.
بعد ثلاثة أيام من التحقيق مع الأشقاء الأربعة، أفرج الاحتلال عن ثلاثة منهم فيما أبقى على اعتقال محمود بذريعة تأسيس خلية عسكرية للتخطيط لتحرير مؤسس حركة المقاومة الإسلامية حماس الشيخ الشهيد أحمد ياسين، الذي كان أسيرًا في سجون الاحتلال حينئذ.
وعلى إثر ذلك حكم عيسى بالسجن المؤبد ثلاث مرات إضافة إلى 46 عامًا.
وألقي القبض على عيسى برفقة زملائه الثلاثة ماجد أبو قطيش وموسى عكاري ومحمود عطون.
بعد انتهاء فترة التحقيق مع الأسير عيسى والتي تنقل خلالها على عدة مراكز وتعرض لأقسى أنواع التعذيب، زج الاحتلال به في عزل سجن الرملة والذي عُرف بذاك الوقت بأنه أسوأ سجون العزل.
شقيقة الأسير عيسى "أم عامر" تلفت في حديثها مع صحيفة فلسطين إلى أن فترة التحقيق والعزل الأولي لشقيقها كانت الأسوأ، فخلال هذه الفترة لم تتمكن العائلة من زيارته أو رؤيته سوى للحظات معدود في جلسات المحاكم والتي كانت بمعظمها سرية فيمنع الأهل من الدخول.
كل الأخبار عنه كانت تصل إلى عائلته عن طريق محامين يدخلون لزيارته أو يشاركون في جلسات المحاكم التي كانت تعقد.
في عام 1995 أغلق الاحتلال عزل سجن الرملة، فتخلص الأسير محمود من العزل لعدة أشهر ولكن سرعان ما أعاده الاحتلال إلى عزل بئر السبع حيث مكث هناك مدة شهر كامل، دون إبداء أسباب.
بعد شهر من المكوث في عزل بئر السبع، نقل الاحتلال الأسير إلى سجن عسقلان وهناك فكر الأخير بمحاولة التحرر من سجون الاحتلال وبدأ للتخطيط، فشرع مع مجموعة من الأسرى بحفر نفق تحت الأرض بطول عشرة أمتار لكنّ سلطات الاحتلال اكتشفت الأمر، فعملت على تفريق الأسرى المشاركين بالحفر عن بعضهم وحكمت عليهم بتمديد فترة سجنهم، ونقلهم جميعًا إلى العزل الانفرادي، فمكث محمود على إثر ذلك سنة وشهرين رهن العزل الانفرادي.
زيادة الحكم
في منتصف 1998 أعيد الأسير إلى التحقيق في "سجن المسكوبية" لمدة ثلاثة أشهر تعرض خلالها لأقسى أساليب التعذيب ونسب الاحتلال إليه وقتها تشكيل مجموعة عسكرية في القدس مسؤولة عن قتل مستوطن وتقديم التمويل المالي والتعليمات لها.
تقول شقيقته أم عامر: "ثلاثة أشهر لم نكن نعلم أن محمود في التحقيق، وكنا في كل مرة نحاول الزيارة بها يبلغوننا أنه معاقب وممنوع من الزيارة دون أي إضافات".
وتضيف أم عامر: "لكن بعد انتهاء التحقيق معه أبلغنا أحد المحامين أنه تم نقل محمود العزل الانفرادي في سجن بئر السبع مرة أخرى ثم نقل إلى عزل عسقلان وقضى حينها عامين جديدين من العزل، ولو لم يخض الأسرى إضرابًا عن الطعام حينها لما علم أحد إلى متى كان سيستمر العزل".
وفي 2002 خضع الأسير إلى جولة جديدة من التحقيق استمرت شهرين واستخدم الاحتلال حينها التعذيب الجسدي والنفسي ضد محمود.
تقول والدته أم محمد: "استدعوني حينها للتحقيق في مركز تحقيق المسكوبية، وهناك وضعوني في غرفة مقابلة للغرفة التي يجلس بها محمود وكان يفصل بيننا لوح من الزجاج" مضيفة: "حاولوا أن يجعلوا مني وسيلة ضغط لكي ينتزعوا منه اعترافًا لكنه أصرّ على عدم الاعتراف".
في حينها وجه له الاحتلال مجموعة من الادعاءات، منها تشكيل خلايا عسكرية في منطقتي القدس ورام الله المحتلتين، وخضع بعدها لمحاكمة جديدة أضافت له ست سنوات جديدة زيادة على حكمه.
وبعد انتهاء المحكمة نقل فورًا إلى العزل الانفرادي ومكث فيه 10 سنوات متتالية، خرج منه بفضل الإضراب الجماعي الذي خاضه الأسرى في عام 2012.
استغل عيسى سنوات اعتقاله بالقراءة والكتابة، فأصدر خلال سنوات عزله ثلاثة كتب وهي: تأملات قرآنية، سلسلة وفاء وغدر، وكتاب حكاية صابر والتي مثلت سيرته الذاتية، كما أصدر كتاب "المقاومة بين النظرية والتطبيق" ومؤخرا صدر له كتاب "السياسة بين الواقعية والشرعية: دراسة نقدية لكتاب الأمير لميكافيلي".
آمال مبددة
مع الإعلان عن صفقة وفاء الأحرار في 2011 التي تم الإفراج بموجبها عن نحو 1047 أسيرًا مقابل الجندي في جيش الاحتلال جلعاد شاليط، عاشت عائلة الأسير محمود عيسى أكبر أمل بتحريره، لكن الاحتلال الإسرائيلي رفض الإفراج عنه.
في نهاية 2013 تجدد الأمل لدى العائلة للإفراج عن نجلهم ضمن قوائم الإفراجات عن الأسرى القدامى، ولكن هذه المرة أيضًا لم يكتمل أمل العائلة باللقاء فقد أُخر اسم محمود إلى القائمة الأخيرة والتي رفض الاحتلال الإفراج عنها.
وفي 2014 مع إعلان كتائب الشهيد عز الدين القسام الجناح العسكري لحركة المقاومة الإسلامية حماس، عن أسر الجندي في جيش الاحتلال شاؤول أرون تجدد أمل العائلة بأن يكون اسم محمود واردًا في أي صفقة تبادل قادمة، حيث تراقب العائلة كل جديد حول هذه الصفقة علها تظفر برؤية نجلها الذي حرمت من زيارته في سجون الاحتلال لأكثر من 14 سنة.