فلسطين أون لاين

​في "ملكة" على حدود غزّة الشرقيّة

نسيم الشّرق يثير الشوق في قلوب أبناء الشهداء

...
غزة - حنان مطير

لمعَت شمس الغروب بعينيها اللّتين بلّلهما الدّمعُ، ثم ابتسَمت وقالت: "نفسي أسمع صوته.. سأموت لو تلاشَى من ذاكرتي".

كانت آلاء الديري البالغة 17 عاماً تقف برفقة أختيها الأصغر إسراء وشيماء أمام السلك الحدودي الشرقي لغزّة، مُشاركةً في مسيرات العودة الكبرى وكسر الحصار، فيما لا تغيب عن عينيها صورةُ والدِها الذي استُشهِد بضربة صاروخ " "F16في العدوان الإسرائيلي على قطاع غزّة عام 2008 كما تحكي لـ"فلسطين".

وتوضح: "كل الأحداث التي تتعلّق بأمر فلسطين تُذكّرني بوالدي الذي استُشهِد في قصف "مدينة عرفات للشرطة"، ومسيرات العودة واحدة من تلك الأحداث المهمّة".

كانت آلاء في السابعة من العمر حين استُشهِد والدُها، لكنها تذكر الكثير من المواقف الرائعة التي جمعتها به، تروي: "كان يلاعبني فيمسكني من ذراعي ويدور بي في الهواء، وما أجمله حين كان يحملني على رقبتِه فتملأ ضحكاتنا البيت كلّه".

مرّت السنوات وشعور الاحتياج لوالدِها يُلحّ عليها فتُصَبّر نفسَها بالنّظر لصورتِه ولشريط فيديو مسجّل له، وكذلك باسترجاعِ بعض الذكريات المخزونة في عقلِها، وإنْ ضبَّبَتْ العشرُ سنوات الكثيرَ منها.

أما اليوم الأكثر ألمًا على قلبِها فكان كما تصف: "يوم تخرّجي ونجاحي في الثانوية العامّة، لقد بكيتُ حتى ملَّني البُكاءُ، كنت أتمنى أن يكون بجانبي ويبارك لي نجاحي، لكنني حتّى افتقدتُ جزءً من ملامِح صوتِه الذي أحبّه".

وتشير آلاء للسلك الحدودي وتقول: "أشعر أن والدي هناك، يسمعني ويراني في تلك الأراضي الخضراء حيث لا يمكنني اجتيازها والوصول إليها".

وتضيف: "وأنا واقفةٌ هنا أتخيّل أنه ينظر إليّ من خلف ذلك السّلك، فهذا الجيش (الإسرائيلي) المحتلّ هو من خطف والدي وقتَله، وحرَمني منه، كما حرم أمي وأُختاي".

وتتبع: "لذلك أكون سعيدة جداً حين آتي للحدود مع المشاركين في مسيرات العودة الكبرى، وهذا أقلّ واجب تجاه بلادِنا المسلوبة وتجاه حقّ العودة، فما استُشهِد والدي إلا لأنّه فلسطيني ومدافعٌ عن هذه البلاد".

اغتيال

أما الفتى مصطفى صرصور والبالغ 15 عامًا، فقد جاء هو الآخر مشاركاً في مسيرات العودة، حاملاً بيدِه كتاباً وعلى ظهره حقيبة مدرستِه.

ويروي مصطفى أن الاحتلال اغتال والدَه محمد صرصور عام 2004 وهو يقود دراجته النارية، وكان حينها في عمر الثانية لينشأ ويترعرع بحضن أمّه الحنون وبلا أب، وقبل اغتيال والده بما يقارب الشهر استُشهِد جدّه أيضاً مصطفى صرصور بعد أن حمل حفيدُه اسمَه.

يقول: "أفتخر أنني حملت اسم جدّي، لقد كان برفقة شيخ فلسطين المجاهد الشهيد أحمد ياسين، حينما قصفته قوات الاحتلال بالصواريخ أمام مسجد المجمع بغزة بعد صلاة الفجر، حيث أصيب إصابة بالغة، استشهد متأثرا بها بعد ثلاث أسابيع".

مرّت السنوات فكانت فيها تحاول والدتُه تعويضه وأخاه الحرمان والفقد، فحرصت على غرس القوة في روحِه فكان أول ما فعلت أن دفعتْه للقراءة والمطالعة فهو الذي يقرأ ما يقارب 80 كتاباً في العام كما يضيف.

كان مصطفى يسير في ذلك الشارع الترابيّ باتّجاه السلك الحدودي فيما عيناه لا تغيبان عن النظر بين سطور كتاب "المشنقة" للقيادي محمود الزهّار، وهي الرواية التالية له بعد انتهائه من كتاب "ويسمعون حسيسها" لأيمن العتوم، وأمير الظل، والمقصلة لعبدالله البرغوثي وقبلها الكثير.. يوضح.

ويأتي مصطفى لذلك المكان ملبيًا نداء العودة لبلدتِه المهجّرة "زرنوقة" ونداء أبيه كما يقول ويُعبّر: "أنا هنا لتأكيد حقّنا في العودة لبلادِنا، فأنا واحدٌ من الشعب الذي أتَى بكل رضىً وقناعة، لاستكمال مشوار والدي الذي كان مناضلاً ومقاوِماً للاحتلال من أجل التحرير والعودة".

ويعلق: "ذلك المحتلّ الذي يقف خلف الحدود هو من قتل والدي بكل برود، وجئت لأوصل له رسالتي بأنني "رغمًا عنك سأعود وحلم والدي وكل الشهداء المناضلين في التحرير والعودة سيتحقّق بإذن الله..".

لكن الاحتلال الإسرائيلي لم يتوقّف عن أفعاله الإجرامية ليقتل فرحةَ العيدِ ويسلب فيه رائحة أبيه العبِقة في الغُرَف، حين قصف بيتَه ثاني أيام عيد الفطر عام 2014 في حي الزيتون. يعلِّق: "الجلوس أمام الحدود يثير شوقي لوالدي، وحماسي للاستمرار حتى نيل حقوقنا".

يتيمة شهيد الحصار

وكانت الفتاة سجا اللوح من حيّ الزيتون بغزّة قد هي الأخرى فقدت والدَها شهيداً لحصار غزّة منذ 11 عاماً، ليترك في قلبِها فراغاً وحسرةً كبيرة، وفق وصفِها، منذ كانت في عمر السابعة.

سجا التي بلغت اليوم 16 عاماً، يزداد الشوق بقلبِها لوالدِها الذي مُنِع من السفر عبر معبر بيت حانون "إيرز" للعلاج في الأراضي المُحتلّة، فتوفي إثر ذلك في عمر 45.

لفّت ابنة الشهيد عنقها وكتفيها بوشاح الكوفية الفلسطينيّة وتركتها ترفرف مع هبّات الهواء أقصى شرق غزّة بعد أن جاءت برفقة أمّها وجاراتِها في باصهم الخاص.

لقد كُنّ على موعد مع الثورة الرّوحيّة النابعة من عمق الفتوّة وحماسِها، بيّتنَ النّيّة على التّجمّع هناك، على الحدود مع الاحتلال الإسرائيلي، بعد التّجمع صباحاً أمام بيوتهنّ، صدحَت أغاني الوطن والثورة عبر الراديو المشغل في الباص، كما تروي، وانطلقنَ إلى الشرق.

تقول بكل ثقة: "آتي بين يوم وآخر وقلبي يشتعل من الدّاخل، حزناً من ناحيةٍ على فقدان والدي الذي تمنيتُ أن يصاحبني في تلك المسيرات، فلو أنه حيّ لما فارق الحدود يوماً إذ كان يتوق للعودة لبلادِنا، ومن ناحية أخرى يشتعل ثورةً أمام ذلك المحتل المتحصّن بالجبل والذي يسرح ويمرح في أراضينا الرائعة، وهو السبب بعد إرادة الله في الحرمان من أبي".

وهناك اجتمعت بنات حيّ الشجاعيّة الأختان وبنتا العمّ نور وضحى وبراءة وفرح الشغنوبي ابنة الشهيد عام 2008، ليثبتنَ وجودهنّ الذي اعتبرنه أقلّ واجب يمكن أن يُقدّم في سبيل العودة للبلاد وتحقيق الكرامة المسلوبة.

وقفنَ على تلةٍ رمليةٍ وأمسكنَ الكوفية الفلسطينية ورفعنها لأعلى لترفرف في سماء غزّة على الحدود الشرقيّة، ويُعبّرن: "لا نأتي إلا ونرتديها فهي أحد أهم الألبسة التراثية القديمة التي نعتزّ بها".