من المفترض نظريًا أن محمود عباس، الشهير باسم أبو مازن، رفيق كفاح أبو عمار وأبو جهاد وأبو اللطف، هو رئيس سلطة فلسطينية، منبثقة عن كيان عتيق اسمه منظمة التحرير الفلسطينية.
ومن المفترض، نظريًا أيضًا، أن لهذه السلطة وظيفة أولى وأساسية في الحياة، هي قيادة نضال الشعب الفلسطيني، من أجل تحرير أرضه ومقاومة المحتل الصهيوني، بكل الوسائل، وفي مقدمتها الكفاح المسلح الذي كان هو السلم الذي صعد عليه محمود عباس إلى قمة هرم السلطة الفلسطينية.
غير أن الواقع شيء آخر، مختلف تمامًا عما هو مفترض نظريًا، إذ يتخلى السيد أبو مازن عن كونه قائد سلطةٍ لديها مشروع تحرّر وطني، وينتقل إلى حالة ناشط سياسي، أو مسؤول حزبي داخل الكيان الصهيوني، يحيل مشروع المقاومة إلى حالة معارضة، وبدلًا من أن تكون العلاقة مع العدو المحتل عملية كفاح ومقاومة، يريدها عباس مجرد حركة معارضة ونشاط احتجاجي، لا يتجاوز الوقفات والهتافات وشعارات الغرافيتي على الحوائط.
جميع المحبين لفلسطين، المعلقة قلوبهم بحلم التحرير ومواجهة الاحتلال، رأوا في مسيرات العودة إبداعًا شعبيًا جديدًا، يُضاف إلى إبداعات المقاومة الفلسطينية الصامدة، تلك التي لا تفرط في السلاح، ولا تتنازل عن حقها الشرعي في استخدامه، بمواجهة ترسانة القتل والدمار الصهيونية. ومن هنا، كان التعاطف والفرح بمسيرات العودة التي أدخلت قطاعات شعبية واسعة في مشروع المقاومة الشاملة.
غير أن محمود عباس الذي تهمه الحالة الصحية لمجرم الحرب بنيامين نتنياهو، أكثر من أحوال الجرحى والأسرى الفلسطينيين، لم يجد في مسيرات العودة إلا فرصةً سانحةً لإهالة التراب على مشروع المقاومة المسلحة وتحقيرها وتسفيهها، بل وتجريمها، حين يقول بصريح العبارة "إن حماس بدأت تتبنى المقاومة السلمية، وثبت لهم أن المقاومة السلمية الشعبية فعالة أكثر من الكلام الفاضي".
ببساطة شديدة، باتت المقاومة المسلحة نوعًا من الكلام الفاضي، بنظر شخصٍ يتفانى في خدمة التنسيق الأمني مع الكيان الصهيوني، ويتهجد في معبد "أوسلو"، معتنقًا عملية التسوية، كما وضعت نصوصها واشنطن وتل أبيب.
بمعيار عباس، فإن آلاف الشهداء، منذ عز الدين القسام، وأبو جهاد وأبو إياد وكمال عدوان وخالد الحسن وصلاح خلف و أحمد ياسين وفتحي الشقاقي والجعبري، كانوا ضحايا الكلام الفاضي، وآلاف الأسرى والمعتقلين من مروان البرغوثي وحتى عهد التميمي، دخلوا الزنازين بتهمة الكلام الفاضي، بل أن وصول عباس نفسه إلى قمة السلطة هو نتيجة كلام فاضي أودى بحياة الزعيم ياسر عرفات، حين تمسّك بسلاح المقاومة.
وبالمعيار ذاته، كذلك، يمكن اعتبار المواثيق والقرارات الدولية التي تحمي حق الشعوب الواقعة تحت الاحتلال في المقاومة المسلحة ضربًا من ضروب الكلام الفاضي، كما أن المقاومة المسلحة التي مارسها الفرنسيون، مثلًا، ضد الاحتلال النازي في القرن الماضي، كانت ضمن الكلام الفاضي، كما أن القرار رقم 3103 الصادر من الأمم المتحدة في عام 1973 هو أيضًا من أشكال الكلام الفاضي، حيث يقول في منطوقه إن الجمعية العامة " وإذ تؤكد من جديد أن استمرار الاستعمار، في جميع أشكاله ومظاهره، كما ورد في قرار الجمعية العامة رقم 2621 (الدورة 25) في 12 أكتوبر/ تشرين الأول 1970، هو جريمة، وأن للشعوب المستعمرة حقًا طبيعيًا في النضال بكل الوسائل التي تصرفها ضد الدول الاستعمارية والسيطرة الأجنبية، ممارسة بذلك حقها في تقرير المصير الذي اعترف به ميثاق الأمم المتحدة وإعلان مبادئ القانون الدولي بشأن العلاقات الودية والتعاون بين الدول وفقًا لميثاق الأمم المتحدة".
باختصار شديد، كل شيء من شأنه التشويش على دفء العلاقة بين محمود عباس والكيان الصهيوني، وكل قول أو فعل يؤدي إلى هز مقعد الحكم من تحت أبو مازن، يندرج تحت بند الكلام الفاضي، من البندقية في يد المقاتل والحجر بيد طفل وامرأة، إلى قصائد شعراء المقاومة، وأغنيات النضال.