منذ النكبة والسياسة تلعب في الثقافة.. ومنذ أن لاح في أفق السياسة الفلسطينية البحث عن حل سلمي والقبول بإقامة دولة فلسطينية على الأراضي التي احتلت عام سبعة وستين والصراع السياسي يتسارع في المجتمع الفلسطيني وفي التصور العربي العام، أصبحت فلسطين بعيدة المنال خاصة والاحتلال على الجغرافيا قد عمل عمله: جدار الفصل العنصري ومنع الفلسطينيين من السفر إلى الداخل الفلسطيني ولو بقصد الزيارة وإنعاش ذكريات الماضي والاستغلال البشع للأرض والمياه وكل مكنونات هذه الأرض الطيبة.
وعاش الفلسطيني الفصام النكد بين الثقافة والسياسة، السياسة توسوس له وتثير هواجس كثيرة وتهيم في فن الممكن والتداعي لمعادلات الواقع المرير المحلية والإقليمية والدولية، تنظر فتجد العالم متكالبًا علينا ومنحازًا بطريقة سافرة لعدونا ومع اتفاقيات هبطت بالسقف ودنت وتدلت وعاش الفلسطيني سنوات طويلة وهو ينتظر فتات الفتات من طاولة المفاوضات وفي نفس الوقت يرى الجرافة الاسرائيلية تأكل الأرض وتصنع زيفها كواقع على الأرض وتمضي قدما في تهويد القدس وتعمل على المزيد من القوة والبطش. في ميدان السياسة تراجعنا كثيرا وتصدع جدّار صمودنا، وللأسف أبدينا الاستعداد للقبول بتنازلات كبيرة دون أن نحصل على مقابل معقول، وتجلى السلام المزعوم بتجليات لم تسفر إلا عن سراب وأوهام وكما قال أحد المصريين: السلام مقابل سلامتك.
كل ذلك عمل عمله في عالم السياسة ألا أن الثقافة بقيت شامخة عند أغلب رواد الثقافة وبقيت فلسطين محفورة في الوجدان، فلسطين هي كما هي من البحر إلى النهر وحق العودة للاجئين مع التعويض حق ثابت لا لبس فيه والقدس هي العاصمة وهي درة التاج وأغلى ما نملك، فلم يجرؤ أحد أن ينال من مكانتها في عالم الثقافة إلا من كان مطبّعًا ومدعيًا للثقافة والثقافة الفلسطينية العامة منه براء، وكان شعار المثقف أن الثقافة هي الجدار الأخير فإن سقطت كل الجدر فلا يمكن لجدار ثقافتنا أن يسقط.
وجاءت مسيرات غزة وما توازى معها في الضفة كي ترفع هذه الروح عاليا وكي تضخ في الثقافة الفلسطينية نفسها الأصيل ولتعيد التفكير إلى أصوله الأولى، إلى المربع الأول الذي بنيت عليه القضية الفلسطينية، بأبجديات واضحة محددة لا لبس فيها ولا تبديل ولا تحويل، هناك قوة غاشمة تسمى الحركة الصهيونية احتلت بالقوة وبدعم بريطاني ثم أمريكي أرض فلسطين، ارتكبت المجازر وبعملية تطهير عرقي دفعت الناس للهجرة وأسكنت في مدنهم وقراهم من جاءت بهم من كل أصقاع الأرض ثم أقامت دولتها على أرض فلسطين ظلمًا وعدوانًا.. من الأبجديات أن يقف الفلسطينيون على حقوقهم قبل ممارسة التطهير العرقي عليهم.
وتأتي هذه المسيرات لتعيد الذاكرة التي أرادت السياسة أن تحدث بعض التشوّهات فيها فأعادت الثقافة الأمور إلى نصابها وأحيت من جديد الروح العالية التي يمتاز بها الفلسطيني.. هذا الفلسطيني الذي حشر في الزاوية ومورس عليه أعتى أنواع الحصار في منطقة تعد الأكثر كثافة سكانية في العالم وعيناه ترى الأرض التي سرقت منه يتمتع بها السارق وينعم بأرضها الخصبة ومياهها العذبة وحقولها الغنية بثمارها.
هذه المسيرات وهذا الحضور المتاخم على مشارف أرضنا المسروقة يعيد القضية إلى مربعها الأول ويعيدها إلى معادلة واحدة دون أية تعقيدات ودون تشوهات السياسة العرجاء: قوة تحتل وتقيم حياتها على أنقاض حياة شعب محتل، فلا حل إلا بإنهاء هذا الاحتلال وإعادة الحقوق لأصحابها.