مسيرة العودة التي انطلقت الجمعة الفائتة على مشارف قطاع غزة والتي تستأنف في كل وقت وحتى اليوم العظيم الموافق الخامس عشر من مايو القادم الذي يوافق يوم النكبة التي شهدت أكبر عملية تهجير للشعب الفلسطيني، إنما شكلت خطوة نوعية متقدمة في العمل الفلسطيني، ولعل أكثر من يعرف هذا الاحتلال الإسرائيلي الذي واجه المسيرة بخطة قتل مسبقة عن سابق تصميم وإرادة. وهذه المسيرة، التي قدمت 16 شهيدا ومئات الجرحى، حتى اليوم، تضاف للكفاح الفلسطيني.
الذين خرجوا جماعات صغيرة متتابعة، العام 1948، بعد طول تردد، بفعل القوة الصهيونية: المجازر المباشرة، والقصف بالطيران، والحرب النفسية، يعودون بحسب مسيرات العودة الحالية والسابقة واللاحقة، من دون تردد وجماعياً، للحدود التي أبعد آباؤهم وأجدادهم منها، فضلا عن أن المسيرة بديل نوعي لتعثر الكفاح المسلح. وهذه الصورة، والخطوة النوعية، أرعبت الإسرائيليين، وجعلتهم لا يترددون بتدفيع العائدين ثمناً باهظاً، ففكرة العودة الجماعية، وفكرة النضال السلمي الشعبي الواسع، سيناريوهان يريد الاحتلال تفاديهما بأي ثمن لإلغاء حق العودة بأي شكل كان وقد بدأ بتنفيذ هذا المخطط بتصفية وكالة الغوث "اونروا" الشاهد الأول على النكبة واللاجئين.
والحقيقة أن هذه المسيرة ليست المسيرة الأولى من نوعها، فقد تم تسيير مسيرات مشابهة سابقاً، ولكن ربما هذه المرة كانت الأكبر والأجرأ والأكثر "ثمناً" في الأرواح. ففي في العام 1990 سيرت مسيرة للعودة في الأردن، قُدّر عدد المشاركين فيها أيضاً بعشرات الآلاف ووصل بعض المشاركين إلى الحدود فعلا حينها. وقد نظم مشروع لسفن عودة في عام 1988 تنطلق باللاجئين من قبرص نحو فلسطين المحتلة، ولم يكتب لها النجاح، حيث قام الإسرائيليون بتفجير تلك السفينة بتواطئ من السلطات القبرصية.
وظلت فكرة العودة موجودة في نفوس وأذهان الاجيال الفلسطينية لم تطمس قط، ففي العام 2011 تم تسيير مسيرات عودة، من لبنان والأردن ومصر وسورية، وكان المخطط حينها الانطلاق من 30 نقطة حدودية، وأيضاً واجه الإسرائيليون تلك المسيرات بقسوة بالغة. بل الأكثر من ذلك، وتم تكرار مثل هذه المحاولات مرات عديدة ولو بشكل فردي كهبات شعبية لا تكاد تنقطع في السنوات الأخيرة، فهي تضاف لهبة 2015-2016 في الضفة الغربية والقدس، وتضاف إلى هبة بوابات القدس في صيف 2017. والسياق الثالث، أن هذه الهبة جاءت من غزة تحديداً (حتى الآن). ويرتبط هذا بحالة الضيق والحصار والمعاناة في القطاع، مثلما يرتبط بالإيمان بحق العودة في القطاع وأماكن تواجد اللاجئين الأخرى.
اليوم تؤكد مسيرة العودة من حيث نطاق أحداثها ومستوى لهيب نارها أن الصراع على الأرض هو معركة في الحرب غير المنتهية التي يخوضها الشعب الفلسطيني في مختلف أماكن تواجده وبأشكال مختلفة، في وجه محاولات إبادته وتصفية قضيته والقضاء على حقوقه المشروعة، بهدف تثبيت المقولة الصهيونية "أرض بلا شعب لشعب بلا أرض"، ولكن ما تفاجأ به الاحتلال هو عكس توقعاته وسقطت مقولة جولد مئير "الكبار سيموتون والصغار سينسون"، فالشعب الفلسطيني لا ينسى وطنه وأرضه ومقدساته, طالما فيه عرق ينبض ليؤكد للاحتلال ومن خلفه الإدارة الأمريكية أن حق العودة لا يسقط بالتقادم ولا بالابتزاز.
واذا ما أردنا قراءة رسالة مسيرة العودة نجد أنها تعبر أولا عن أن حالة الاستكانة غير موجودة. وثانيا، أن هناك سبلاً مختلفة للمقاومة، وبالتالي فإن جمع هذه النشاطات في بوتقة واحدة وموجة متكاملة متزامنة، يمكن أن يشكل كابوساً إسرائيلياً حقيقياً، لأنها تفرض قواعد اشتباك في مجال لا تتفوق به (إسرائيل)، (القوة الشعبية بدلاً من القوة المسلحة العسكرية النظامية)، فمثل هذه النشاطات، عدا عن صعوبة مواجهتها، يمس حياة المستوطنين والإسرائيليين مباشرة، ولعل قادتهم فهموا رسالة الشعب الفلسطيني أن حق العودة لا يسقط بالتقادم.