قائمة الموقع

ل​يالي غزة.. ضوء القمر فاصل بين الحرب وضجيج الحياة

2018-04-03T07:23:42+03:00

ليل الحدود الشرقية لقطاع غزة، يختلف عن نهارها؛ فقبل مغيب الشمس تزدحم في سماء المنطقة أعمدة دخان الإطارات المشتعلة، الممتزجة مع سحب الغاز المسيل للدموع، لترسم مشهداً رمادياً موحشاً، يتداخل فيه وميض كرات نيران الزجاجات الحارقة "المولوتوف"، المتطايرة، ورشقات الحجارة، مع أصوات التكبيرات، وأزيز الرصاص وصافرات سيارات الإسعاف.

ذلك المشهد السابق، يتلاشى تماماً مع حلول الليل، وبزوغ القمر، حيث تتحول المنطقة إلى مكان للاستمتاع بالأغاني والرقصات والمعزوفات الشعبية وجلسات السمر الهادئة.

ويعتصم منذ يوم الجمعة الماضي، الآلاف من الفلسطينيين في مخيمات أقاموها قرب السياج الحدودي الفاصل بين غزة و(إسرائيل)، في إطار إحياء ذكرى "يوم الأرض" التي توافق 30 مارس/ آذار من كل عام، واحتجاجاً على الحصار الإسرائيلي للقطاع.

ويتطلب الوصول إلى ساحة الاعتصام تلك، الكثير من الحذر فاتباع سحب الدخان والغاز المتصاعدة من المنطقة أو السير على ذلك الطريق الترابي الملتوي، قد يقودك إلى موقع مواجهة لا يبعد سوى 10 أمتار عن ثكنة جنود الاحتلال لتقع بين حجارة المتظاهرين الغاضبة، ورصاصات وقنابل قوات جيش الاحتلال كما حدث مع فريق الأناضول.

ولتجنب ذلك الموقف المزدحم بالأخطار، كان علينا اتباع طريق آخر، أرشدتنا إليه سيارات الإسعاف القادمة من هناك مسرعة، و"سارية"، عالية تحمل العلم الفلسطيني، وبعض الشبان الذين ينقلون الطعام والمياه للمحتجين.

وعلى بداية الطريق لمخيم "العودة"، كما يسميه المنظمون، القريب من الحدود الشرقية لمدينة خانيونس، جنوبي القطاع، تنتصب بوابة إسمنتية كبيرة، رسم على أحد جانبيها جدارية لعلم فلسطين، وكتب عليها بلون التراب "على هذه الأرض ما يستحق الحياة"، وهو بيت شعر من قصيدة شهيرة للأديب الفلسطيني الراحل محمود درويش.

وبعد الدخول من تلك البوابة، التي ترتفع لنحو خمسة أمتار، قادنا طريق ترابي قصير إلى ساحة واسعة تتوزع فيها بعشوائية أكوام رمال، تشبه التلال، وضعها المتظاهرون لتحمي خيامهم من رصاص جنود الاحتلال ، وقنابل الغاز.

وعندما وصلنا إلى المخيم، (وكان ذلك، قبل غروب الشمس)، وجدناه شبيهاً بالصور الأرشيفية القديمة الخاصة بمخيمات اللاجئين الفلسطينيين التي أقيمت عام 1948، فالخيام البيضاء موزعة بانتظام، ويجاورها دورات مياه، ونقاط لتوزيع المياه والطعام والقهوة، ومكان مخصص لطهو الطعام، وآخر للعب كرة القدم، وبين كل ذلك يتجول بعض باعة الحلويات والعصائر على عرباتهم.

وعلى الأطراف الشرقية للمخيم، كانت ساحة حرب حقيقية فالعشرات من الشبان الموشحين بالكوفيات الفلسطينية خرجوا في مجموعات باتجاه السياج الفاصل وهم يحملون الأعلام ويرشقون قوات الاحتلال المتحصنة خلف السياج، بالحجارة.

وما أن وصل هؤلاء الشبان إلى نقطة قريبة من السياج، حتى بدأ الجنود بإطلاق قنابل الغاز المسيل للدموع التي بدأت تتطاير في السماء على شكل أقواس بيضاء، قبل أن تسقط بصوت صفير حاد، بين المتظاهرين، الذين سرعان ما يتفرقون ليعود بعضهم ويلتقط تلك القنابل ويلقيها للجانب الآخر من الحدود.

وبالتزامن مع هتاف "الله أكبر"، يعود الشبان لجمع الحجارة ورشق جنود الاحتلال المتحصنين خلف سواتر رملية عالية بها، فيرد هؤلاء بتكثيف إطلاق قنابل الغاز المسيل للدموع، والرصاص الحي والمعدني المغلف بالمطاط.

وتفوق كثافة غاز الاحتلال قدرات احتمال الشبان، فيتساقط العشرات منهم اختناقاً، قبل أن يسارع رجال الإسعاف المتواجدين في المنطقة، ومتظاهرين آخرين لإنقاذهم ونقلهم إلى المخيم، لتقديم العلاج الميداني لهم.

ويبدو أن من يُصاب بالاختناق، يكون محظوظاً، فالعديد من زملائه يقعون ضحايا قناصة جيش الاحتلال، الذين يطلقون عليهم الرصاص الحي، وهو ما يتطلب نقلهم إلى المشافي بواسطة سيارات الإسعاف.

مضت ساعة كاملة، قبل أن تغيب أشعة الشمس وينسحب المتظاهرون من ساحة المواجهة إلى المخيم، فقد حان موعد صلاة المغرب، وبعدها ستبدأ فقرات احتجاجية ليلية مختلفة تماماً عما وقع تحت ضوء النهار.

بداية تلك الفقرات، كانت بتوجه مجموعة من الأطفال إلى ملعب كرة القدم فهناك تقام مباريات حماسية يستمتع المحتجون بمشاهدتها، وليس بعيداً عن الملعب أشعل بعض الشبان النار وبدأوا بإعداد وجبة العشاء.

ويضم طبق هذه الليلة "سلطة الباذنجان المشوي الحار"، و"الطماطم المقلية مع الفلفل والبصل"، ونوع من الجبن الأبيض، إضافة إلى الشاي الساخن.

وبعد تناول وجبة العشاء البسيطة في حلقات دافئة، ضمت أسر كاملة وأقارب وأصدقاء وزملاء المواجهات، تفرق المحتجون فأشعل بعضهم النار أمام الخيام، ووضعوا عليها أباريق القهوة العربية والشاي وتجمعوا حولها لتبدأ جلسة سمر ليلية تستمر حتى الصباح، يتحدث فيها الشبان عن أحلامهم وطموحاتهم ومغامراتهم في ساحة المواجهة.

وفي مشهد آخر، يلتقي كبار السن في خيمة كبيرة يعزف فيها أحدهم على الربابة (آلة موسيقية قديمة من وتر واحد)، ويغني ثان أبيات شعر من قصائد شعبية فلسطينية قديمة، قد لا تكون مألوفة ومفهومة لصغار السن.

وفي لحظات هدوء، بين تلك الفقرات الفنية التي ينسجم فيها الجميع ويمنع خلالها الكلام، استرقت حديثاً مع أحد كبار السن، وسألته فيه عن سر هذا الاحتجاج الذي لا تنطفئ نيرانه، ليقول:" الجميع هنا يتجرع الظلم يومياً. فلماذا نغادر ؟".

"سنواصل احتجاجنا حتى يرفع الظلم والحصار عن غزة، لا يوجد ما نفقده فـ(إسرائيل) دمرت منازلنا بالحرب الأخيرة وقتلت أطفالنا وزوجاتنا وبناتنا وأحرقت مزارعنا"، يكمل المسن الفلسطيني، ضيف الله عبد الله أبو سيف.

ولم يكد المسن الفلسطيني ينهي حديثه، حتى عادت الربابة لتعزف بصوتها الذي يذكّر بـ"أيام البلاد"، كما يقول بعض من عاش في قرى وبلدات فلسطين التاريخية قبل عام 1948.

وإلى جانب تلك الخيمة، التي وُضع على مدخلها موقد كبير لإعداد القهوة، والشاي الداكن، تجمع عدد من الشبان وبدأوا بـ"الدبكة" على أنغام موسيقى خاصة، فيما رأى آخرون في "الدِحِّيّة" (فن بدوي غنائي) طقساً أكثر شغفاً لقضاء الليل.

و"الدبكة" رقصة فولكلورية شعبية منتشرة في بلاد الشام، يصطف خلالها "الدبيكة" على شكل قوس أو دائرة ويؤدون حركات بالأرجل تتميز بالضرب على الأرض بصوت عال مترافقة مع الغناء وعزف الموسيقى الفلكلورية.

أما "الدِحِّيّة" فهي رقصة غنائية بدوية قديمة تؤدى بشكل جماعي؛ حيث يصطف الرجال بصف واحد أو صفين متقابلين، ويغني أحد المتواجدين في منتصف أحد الصفين قصيدته المغناة ويردد الصفين بالتناوب البيت المتفق عليه سلفًا بالتدرج.

وبعيداً عن "الدبكة" و"الدحية" والقهوة المرة، كان للنساء شأن آخر، فبعضهن فضلن الاعتناء بالمصابين الذين أصروا على العودة للمخيم بعد تلقيهم العلاج، وأخريات جلسن يتبادلن أطراف أحاديثهن المعتادة عن الأطفال والدراسة.

واختارت أخريات الحديث عن تحديهن للخطر ومشاركتهم الشبان في رشق جنود الاحتلال بالحجارة والزجاجات الحارقة (المولتوف).

وتجتمع كل هذه المشاهد، في صورة ليلية علوية لمخيم "العودة"، يمكن ملاحظتها من أعلى كومة رمال مرتفعة في طريق المغادرة، فمن هناك يظهر ملعب كرة القدم ومواقد القهوة وحلقات النساء والدبكة والدحية وخيمة المسنين.

غادرنا المخيم، وأعناقنا تتطاول عبر نوافذ السيارة، مراقبة أولئك المعتصمين، دون أن نخفي استغرابنا من شجاعتهم، وبأسهم؛ فترسانة جيش الاحتلال لا تبعد عن مخيمهم سوى بضعة أمتار، وقد يكونوا بين لحظة وأخرى ضحية للرصاص الحي أو قنابل الغاز أو حتى القذائف المدفعية.

اخبار ذات صلة