الفلسطينيون في الوطن المحتل والمحاصر والشتات، قالوا كلمتهم يوم الجمعة: هم شعب واحد موحد، أكبر من انقسامات فصائله وقياداته وصراعاتها العبثية.. وهم، وهذا هو الأهم، ما زالوا يمسكون بجمر قضيتهم وحقوقهم الوطنية المشروعة، من مات من كبارهم نقل إلى أبنائه وأحفاده “الرواية الفلسطينية” بكامل فصولها، والجيل الثاني والثالث وحتى الرابع للنكبة، لم ينس ولن ينسى، بل هو أكثر استمساكًا بهويته وحقوقه وأشواق آبائه وأجداده من الراحلين.
مائة عام على وعد بلفور، سبعون عامًا على النكبة، خمسون على الهزيمة/ النكسة، لم تفتّ في عضد الشعب الفلسطيني، ولم تخلف وراءها سوى العزيمة والإصرار على متابعة مسيرة الحرية والكرامة والاستقلال.. فالفلسطينيون لا ينسون ولا يهزمون، يخسرون معركة أو عدة معارك، بيد أنهم واثقون تمامًا من أنهم سيكسبون الحرب في نهاية المطاف، مهما تعاظمت قوة أعدائهم وجبروتهم، ومهما تطاول الظلم والإجحاف الدوليين.
أول أمس، تجاوز الفلسطينيون في الضفة والقدس والقطاع وداخل الخط الأخضر، ومخيمات اللجوء والشتات، كل “الجدل البيزنطي” حول المصالحة والحوار.. توحدوا في الميدان، وهل ثمة أعمق وأصلب من وحدة يعمدها الميدان ودماء الشهداء وأزيز الرصاص الحي والمطاطي وسحب الدخان والغازات المسيلة للدموع.. قال الشعب كلمته، نحن أكبر من الانقسام، وقضيتنا أكبر من الانقسام، وجسدوا ذلك على الملأ وعلى الهواء مباشرة، في يوم يعد بحق، من أيام فلسطين، وما أكثر الأيام الفلسطينية الفوّاحة بالعزة والكرامة والتضحية والفداء.
وأول أمس أيضًا، في الضفة وغزة والقدس، عاصمة فلسطين الموحدة والأبدية، قدّم الفلسطينيون، ولأول مرة منذ بضع سنوات، “بروفة” عمّا يقصدونه بالمقاومة الشعبية السلمية.. جنود الاحتلال المدججين بالكراهية والسلاح وأوامر أطلاق النار المباشر على رؤوس المتظاهرين السلميين وصدورهم، وقفوا عاجزين أمام “قوة الحشد الشعبي”.. و(إسرائيل) منذ أيام وأسابيع، تعيش كابوس يوم الأرض من جديد، والمؤكد أن الذين راهنوا منهم على صمت الشعب الفلسطيني وسكوته، أصيبوا بصدمة شديدة، وهو يرون عائلات بأجيالها، تخرج عن “بكرة أجيالها”، للانتصار للأرض والحق الفلسطينيين، أجداد وأبناء وأحفاد، رجال ونساء، شيوخ وشبان.. خرج الفلسطينيون يشقون طريقهم للمقاومة الشعبية السلمية، التي تتحول يومًا إثر آخر، إلى عنصر “توحيد” للقوى الفلسطينية، بعد ان كانت مبعثًا على الانقسام.
ما حصل أول أمس في عموم المناطق الفلسطينية المحتلة والمحاصرة، وفي بلدان اللجوء والشتات، ليس سوى بداية انطلاقة فعاليات ممتدة حتى الذكرى السبعين للنكبة.. ستة أسابيع سيتعين على (إسرائيل) أن تعيشها في ذروة الاستنفار الأمني والنفسي والمعنوي والتعبوي.. زمن الاحتلال المريح، الخمسة نجوم، في طريقه للتلاشي، وزمن المقاومة الشعبية و”قوة الماس”، أو الحشد الشعبي، يشرق على مدن الفلسطينيين وبلداتهم ومخيمات اللجوء والشتات، ويحفز أعدادًا متزايدة منهم للانخراط في معمعان الكفاح من أجل الاستقلال الناجز والحرية والكرامة.
والمؤكد أن تجربة يوم الأرض 2018، المحمَلة بالدروس والعبر، ستكون ملهمة للفلسطينيين، وأجيالهم الشابة على وجه الخصوص.. فما الذي سيمنع الفلسطينيين بعد اليوم، من تحويل جميع أيامهم إلى “يوم أرض”، وما الذي سيحول دون تطوير “رزنامة” فلسطينية كفاحية متنقلة في الزمان والمكان والشعارات، لتنظيم الاحتشاد وضرب المواعيد الجماعية لعشرات الألوف منهم.. اليوم لصلاة الجمعة في المسجد الأقصى، وغدًا لصلاة الأحد في كنيسة القيامة، وبعد غدٍ على موعد عند حدود الجدار، واليوم الذي يلي أمام هذه المستوطنة أو تلك البؤرة الاستيطانية.. ودائمًا على امتداد جدار العزل العنصري الذي يخنق غزة.. لا بديل عن تصعيد وتطوير مقاومة الشعب، الجماهيرية السلمية.. هنا، وهنا بالذات، تنتفي الخطوط بين الفصائل وتتلاشى ألوانها وراياتها، وترتسم خريطة الوطن وترتفع راية فلسطين.. هنا وهنا بالذات، تجري مقارعة صفقة القرن وقرار ترامب حول القدس.. هنا وهنا بالذات، “يكسر الجليد” الذي تراكم طول سنوات الانقسام العشر العجاف.
ما حدث الجمعة، ويتواصل على مدى الأسابيع القادمة، يسجل بوصفه قصة نجاح وإبداع فلسطينية، ويؤكد أن العنقاء الفلسطينية “تكبُر أن تُصادا”.. وأن طائر الفينيق الفلسطيني، لن يتوقف عن الانبعاث من تحت الرماد والركام، ليحلق على ارتفاعات شاهقة، يتعذر معها على سهام الغدر والتخاذل أن تطاله أو تلحق به ضررًا.