نشر المبعوث الأميركي لعملية السلام جايسون غرينبلات مقالا في "واشنطن بوست" (بتاريخ ٨ مارس/آذار ٢٠١٨) بعنوان: "هل تمتلك حماس الجرأة للاعتراف بالفشل؟". وللأسف الشديد، ورغم ادعائه الحرص الشديد على مصالح الفلسطينيين ورفاهيتهم وخاصة بقطاع غزة؛ فإن المقال احتوى على تدليس ومغالطات كثيرة، لا تليق بممثل دولة عظمى تدعي الحرص على السلام والأمن والاستقرار.
فقد حمّل غرينبلات مسؤوليةَ الكارثة الإنسانية في غزة بالكامل لحركة حماس، وأعفى "إسرائيل" قوة الاحتلال من أي مسؤولية، وخلط الأوراق بشكل متعمد ليسهل عليه تمرير هذا الخداع على المواطن الأميركي، الذي يجهل الكثير من التفاصيل عن سلوك دولته وإدارتها في الخارج، ولاسيما في الشرق الأوسط.
هذا علاوة على انحيازها المطلق لصالح الفساد والاستبداد على حساب حرية الشعوب وحقوق الإنسان، في الوقت الذي يدفع فيه المواطن الأميركي الملايين من ضرائبه لصالح نشر "السلام والحريّة والمساواة" عبر العالم، كما تدعي إدارته.
ولذلك كان لا بد من رد على هذه الافتراءات وتذكير غرينبلات ببعض البديهيات التي نسيها أو تناساها، وكان الأجدر بمتحدث باسم دولة عظمى كالولايات المتحدة أن يتحلى بالحد الأدنى من المصداقية والموضوعية، ولذا نلفت انتباهه هو وإدارته إلى ما يلي:
أولا: أن "حماس" حركة منتخبة ديمقراطياً من الشعب الفلسطيني وبأغلبية كبيرة في يناير/كانون الثاني ٢٠٠٦، عبر انتخابات حرة ونزيهة وشفافة، وقد شهدت بذلك كافة المؤسسات والشخصيات الدولية المراقبة، بما فيهم الرئيس الأميركي الأسبق جيمي كارتر.
غير أن المشكلة تكمن في كون الولايات المتحدة -التي تحتل الدول وتقتل الشعوب بحجة نشر الديمقراطية والدفاع عن حقوق الإنسان- هي من رفضت نتائج الانتخابات الفلسطينية، وفرضت الحصار حتى قبل أن تشكّل حماسُ حكومتَها، وقد قادت وزيرة خارجيتها آنذاك كوندوليزا رايس هذه العملية على المستوى الدولي، وهي من صاغ شروط الرباعية الجائرة.
وأعتقد أن ما ورد لاحقا على لسان وزيرة الخارجية الأميركية السابقة هيلاري كلينتون -في مذكراتها- من اعتراف بأن "أميركا أخطأت عندما سمحت بانتخابات لسنا متأكدين من نتائجها"، يعدّ أكبر دليل على تحيّز الأميركيين ونوع الديمقراطية المنشودة لديهم.
كما يبدو أن كثرة انتهاكات الولايات المتحدة لحقوق الإنسان والقانون الدولي في بقاع مختلفة من العالم، جعلت غرينبلات يغفل -أو يتغافل- أنّ قطاع غزة منطقة محتلة حسب القانون الدولي، وأن "إسرائيل" -لا حماس- هي قوة الاحتلال والمسؤولة بالكامل عن حياة السكان المدنيين، من الطعام والشراب والدواء والكهرباء وحرية الحركة والحق في التجارة.
ثانيا: لقد اعتبر المجتمع الدولي -بمختلف مكوناته وخاصة الأمم المتحدة- الحصار على قطاع غزة "ظالما وجائرا"، بل وصفه البعض بأنه جريمة حرب، وطالب "إسرائيل" بصفتها قوة الاحتلال -في أكثر من مناسبة- برفعه فوراً أو تخفيفه، وعدم فرض عقوبات جماعية على أكثر من مليونيْ فلسطيني في غزة.
ثالثا: فيما يتعلق بشروط الرباعية الجائرة فإن الحديث عن اعتراف بـ"إسرائيل" أمر مطلوب من الدول والحكومات، وليس التنظيمات والأحزاب مثل حركة حماس.
ثم ما هي "إسرائيل" المطلوب الاعتراف بها؟ وما هي حدودها؟ وما هو دستورها؟ وهل يعترف حزب الليكود الحاكم في "إسرائيل" بدولة فلسطينية؟ وهل يعترف بحق الشعب الفلسطيني في عاصمته؟ وبحقه في العودة إلى أرضه التي هُجّر منها؟
وأذكّر السيد غرينبلات بما ذكره صديقه بنيامين نتنياهو -في مؤتمر منظمة "آيباك" الأخير يوم ٦ مارس/آذار الحالي بواشنطن- من أنه "لن تكون هناك دولة فلسطينية، والمطروح هو مجرد حكم ذاتي محدود"؛ فهذا ما قاله شريككم في عملية "السلام"!
رابعا: أما المقاومة -التي تسميها عنفاً- فإن القانون الدولي وكل المذاهب والأديان تكفل للشعوب المحتلة مقاومة الاحتلال وبكل السبل، بما فيها المقاومة المسلحة (المادة ٥١ من ميثاق الأمم المتحدة).
ثم لماذا هذا الانحياز والازدواجية؟ وماذا تسمي سرقة الأراضي الفلسطينية وبناء المستوطنات؟ وماذا تسمي إعدام الأطفال على يد جيش الاحتلال؟ وماذا تسمي هدم المنازل الفلسطينية بالقوة وطرد ساكنيها؟ وأخيرا ماذا تسمي منع المرضى الفلسطينيين في غزة من السفر لتلقي العلاج في الخارج؟ أليس هذا عنفاً؟ أما نحن فنسميه إرهابا.
خامسا: أما الأوضاع الإنسانية في غزة فهي فعلا كارثية، وتنبئ بانفجار كبير قادم ليس بمقدور أحد أن يتنبأ باتجاهاته. إن الأوضاع على الأرض أسوأ بكثير مما وصفته، ويمكنك الرجوع إلى تقارير الأمم المتحدة وخاصة منظمة "الأوتشا" المسؤولة عن تنسيق الجهود الإنسانية في فلسطين.
ولكن هذه الأوضاع هي نتيجة حصار فرضته إسرائيل -بغطاء دولي- على غزة، فحولتها إلى سجن كبير مفتوح لأكثر من مليونيْ إنسان، بل أحيانا تعاملت مع غزة كحديقة حيوانات تدخل لها ما تحتاجه فقط من الطعام والشراب.
في هذه الفترة لم تدخّر حماس جهدا -سواء على المستوى السياسي أو الإداري أو الوطني أو الإقليمي- في سعيها لحل مشكلة حصار غزة. ولَم تترك حماس فرصة إلا واستغلتها للبحث عن مخرج للأزمة، فسعت في تحقيق المصالحة وإنهاء الانقسام الفلسطيني، ولكن للأسف فإن التدخل الخارجي -وخاصة من "إسرائيل" وأميركا- عطّل ذلك أكثر من مرة.
كما تواصلت حماس مع مصر وتباحثت معها في سبل حل الأزمة مع مراعاة احتياجات مصر الأمنية، وهذا ما أدى مؤخرا إلى زيارة عالية المستوى من قيادة حماس لمصر، أكد فيها الطرفان ضرورة إنهاء الأزمة الإنسانية في غزة، وشكرت القيادة المصرية حماس على ما تبذله من جهود لحماية الحدود ومكافحة التطرف والإرهاب.
ألم تتابع -كمتحدث باسم الولايات المتحدة- ما قدمته حماس وفي أكثر من مناسبة من رؤى سياسية ذات طابع عملي ومعقول لحل الصراع مع الاحتلال بالطرق السياسية، بما يحفظ لشعبنا الفلسطيني حقوقه في الحد الأدنى المتوافق عليه وطنياً؟
ولعل الوثيقة السياسية التي أصدرتها حماس في مايو/أيار ٢٠١٧ خير دليل على عقلانيتها، ورغبتها في تجنب الحرب والدمار في سبيل تحقيق الاستقرار في المنطقة. ولكن للأسف؛ قوبلت كل المبادرات التي قدمتها حماس بالرفض والسلبية.
دعني أخبرك أمرا، إن حماس حركة تحرر وطنية تسعى لتحقيق أهداف شعبها في الحرية والاستقلال والرفاهية، وبالتعاون مع كل الخيرين في العالم، وجاهزة للوصول إلى كل بقاع الأرض والمشاركة في أي فعالية يمكن أن تخدم شعبنا أو تخفف معاناته.
سادسا: أمّا فيما يخص خطتكم للسلام التي تقول إنّ حماس رفضتها دون حتى أن تراها؛ فقد تكون محقا في ذلك، ولكن ماذا تنتظر من حماس وهي ترى رئيسك كل يوم ينتزع -في تصريحاته وقراراته- حقا أساسيا من حقوق شعبنا ومرتكزات نضالنا الوطني؟
وكان في مقدمة ذلك القرارُ بالاعتراف بالقدس عاصمة لـ"إسرائيل"، ونقل السفارة الأميركية إليها في مايو/أيار القادم في الذكرى السبعين لنكبة الشعب الفلسطيني، ضاربا بكل القرارات والمواقف الدولية عُرْض الحائط، ثم أتبع ذلك بقرار وقف تمويل الأونروا المسؤولة دوليا عن إغاثة وتشغيل ما يقارب خمسة ملايين لاجئ فلسطيني.
وذلك على قاعدة شطب ملف اللاجئين وتحويله إلى قضية إنسانية فقط، رغم أنها قضية سياسية بامتياز، ورغم الرفض الشديد على المستوى الدولي لهذا التوجه والتحذير من تداعياته؛ ليس على الفلسطينيين فحسب بل وعلى كل الأطراف في المنطقة.
ختاما؛ لا بد من التذكير والتأكيد على أنه حتى وإن كان هناك خلاف مع حماس ورؤيتها، فهذا ليس مبررا على الإطلاق لأي طرف كان أن يعاقب الفلسطينيين في غزة عقابا جماعيا، وأن يحرمهم من حقوقهم الأساسية، ويدفعهم نحو الإحباط الجماعي وفقد الأمل بمستقبل أجمل.
فغزة مدينة عريقة وشعبها جميل محب للحياة، ويطمح للمساهمة في صناعة الخير للبشرية، وهو قادر على ذلك بما يملكه من شباب وحيوية ما استطاع إلى الحياة سبيلا.