تحت ذريعة كشف الحدود ومنع توغل الأنفاق في الأراضي المحتلة، عمد الاحتلال الإسرائيلي الذي تحلل من التزاماته تجاه قطاع غزة بصفته جهة احتلال، إلى تجويع السكان المحاصرين داخله من خلال إغلاق المعابر التجارية والبشرية لفترات طويلة من جهة، والقضاء على المنتجات الزراعية المزروعة في القطاع وهي في مهدها من جهة ثانية.
فنحو 2.5 مليون مواطن في قطاع غزة يعتاشون على المساعدات والمستوردات –إن سمح الاحتلال بإدخال أغذية- إضافة إلى ما تنتجه الأراضي الزراعية المتبقية من قطاع غزة، والتي تتركز على الجهة الشرقية منه والمتاخمة للحدود مع الأراضي الفلسطينية المحتلة منذ عام 1948، ويستهدفها الاحتلال الإسرائيلي بشتى السبل، متخذا منها مفتاح "إبادة" للقطاع غزة، وهو محق إن نظرنا للموضوع من جهات عدة.
حرب 2014
كان يومًا مشمسًا، حرارته مرتفعة على غير العادة من كل عام، شهر آذار لهذا العام يبدو ملتهباً مما ينذر بنيسان "خراب" غير معهود.. هكذا قرأ الفلاحون الفلسطينيون الأرصاد الجوية والاحتلالية أيضا، فقد اعتادت سلطات الاحتلال الإسرائيلي على مدار السنوات الأربع التي تلت حرب عام 2014، أن تستخدم طائرات "مخصصة" لرشّ مبيدات للأعشاب التي تنمو على طول السياج الفاصل بين قطاع غزة والأراضي المحتلة عام 1948.
يدّعون أنها لرش الأعشاب، بينما الحقيقة المرة هي أنها لرشّ مساحات واسعة من المزروعات، حيث يتم استغلال أوقات محددة من العام حيث يتم رش المبيدات مرتين خلال العام الواحد، الأولى تكون خلال تشرين الثاني/ نوفمبر أو كانون الأول/ ديسمبر، أما المرة الثانية فتكون خلال نيسان/ أبريل أو أيار/ مايو.
وهذه الأشهر التي تكون فيها هبّات الرياح بالاتجاه الغربي قوية ومستمرة لأطول فترة، مما يساعد الاحتلال في تحقيق مراده بنشر تلك المبيدات لأطول مسافة ممكنة، وبالتالي إفساد أكبر كمية ممكنة من المزروعات الفلسطينية، وتكبد الفلاحين خسائر مادية باهظة، وانتكاسة اقتصادية متواصلة، بسبب اعتمادهم وأسرهم على نتاج تلك المحاصيل الزراعية التي تموت في أرضها قبل أن تثمر أو تنضج.
حياة الفلاحين معلّقة بتلك الخسائر التي لا تعويض عنها حتى الآن، ولا يقتصر الأمر على قتل المحاصيل الزراعية ووأدها في مهدها، بل تخطى الاحتلال حدود العدوان والقهر والأذية، حتى إنه تخطى جميع حدود الإنسانية، فلم يكتف بحرق المزروعات، وتدمير عوائل الفلاحين فقراً وقهراً، بل تعدى ذلك إلى مزارع الدواجن وقطعان المراعي التي قتلها سم المبيدات الإسرائيلي، وتسببت في إجهاض أجنة الأغنام، بل إنها طالت الإنسان نفسه.
السرطان منتشر
في السنوات الأخيرة تفشى مرض السرطان في قطاع غزة، ومات المئات من المواطنين بجريرة هذا المرض الذي تسلل للإنسان الغزي لأسباب عدة، لعل من أهمها تراكم تلك المبيدات السامة في التربة وتأثيرها في المحاصيل اللاحقة، وكذلك ما تتركه من تأثير في لحوم الدواجن والمراعي من أغنام وأبقار تناولت أعشابًا وأعلافًا ملوثة بتلك المبيدات.
ليس هذا فحسب، بل إن المياه التي تأتي من طرف الاحتلال تكون هي أيضاً ملوثة، ويتسلل تلوثها للخضروات التي تنتجها الأراضي الزراعية والتي لا تجد طاقة كهربائية لضخ مياه الري من آبارها الزراعية فتضطر للاعتماد على ما يأتي من جانب الاحتلال.
وبجميع الأحوال، فإن التجارب "معلِّم"، والتكرار كما يقول المثل "يعلّم الشطّار"، فتكرار الخسارة في ظل غياب التعويض، دفع المزارعين الفلسطينيين إلى البحث عن طرق وأساليب زراعية تقيهم شر السموم الإسرائيلية التي تنثر رذاذها طائرات الاحتلال فتصيب الشجر والحجر والدابة والبشر.
لذا اعتمد المزارعون على أسلوب الزراعة المحمية عبر أنفاق أرضية، ويصل عرض النفق الواحد إلى مترين، ويمتد على طول الأرض المزروعة، وهو ما أخبرنا به علي أبو عمر "أبو السعيد" وهو عضو لجنة محلية في منطقة جحر الديك الحدودية ومزارع يمتلك، مع إخوته، 130 دونماً زراعية تأذت بسبب عملية الرش التي نفذتها طائرات الاحتلال الاسرائيلي صباح الأحد الماضي.
ارتفاع درجات الحرارة في اليومين السابقين أجبر الفلاحين الفلسطينيين على رفع الأغطية عن تلك الممرات خشية أن تموت بسبب ارتفاع دراجات الحرارة الكبير والمفاجئ، وهو ما استغله الاحتلال، فقدّم موعد رش المبيدات 30 يوماً، ونفذه في الرابع من مارس/ آذار على غير العادة.
نحتاج للكهرباء
هل تفاجأت بالرش خاصة وأنه حصل في غير موعده؟ سؤال وجهته فلسطين لـ"أبو السعيد" الذي روى لنا ما حصل، فأجاب: "لا، لم نتفاجأ، بل إننا توقعنا الرش، ولككنا كنا بين خيارين إما أن تموت محاصيلنا بسبب الحر، والحر لا علاج له بأيدينا، وأما أن تموت بسبب السموم التي ترشها طائرات الاحتلال وتصل إلى مدي كيلو متر أو يزيد وهذه يمكن أن نعالجها إن توفرت لنا السبل".
إجابته طرحت علامة استفهام كبيرة، كيف يمكان معالجة سموم الاحتلال التي داهمت تلك المزروعات واستغلت فترة كشفها؟ والسؤال الأهم أيضاً، هو كيف عرف الفلاحون أن الاحتلال سيرش المبيدات ويداهم مزروعاتهم اليوم بالتحديد؟ وما سبل الوقاية التي اتخذوها؟
لم تهتز نبرة صوته عندما قال: "فقط نحتاج إلى ماء لغسل النباتات والتربة.."، وصمت قليلاً قبل أن يتابع متسائلا: "ولكن من أين؟ فالآبار تحتاج لمضخات تعمل بالطاقة الكهربائية وهي غير متوفرة حالياً".
توجه "أبو السعيد" وزملاؤه الفلاحون بطلب إلى شركة الكهرباء لتحويل خطوط الطاقة إلى المناطق الشرقية من قطاع غزة التي تعرضت لرش تلك السموم، لكن الشركة لم تستجب للطلب على حد قول "أبو السعيد"، واعتذرت عن التنفيذ لـ"أسباب فنية".
شيفرة سرية
أما فيما بتعلق بالسؤال الثاني وهو كيف عرف الفلاحون أن اليوم هو موعد الرش، قال أبو السعيد": "إنها لغة خاصة يتحدّث بها الاحتلال على الطرف الآخر من السلك، ونفهمها نحن، فنحن نراقبهم كما يراقبوننا، ولرش المبيدات طقوس خاصة تجعلنا ندركها قبل التنفيذ".
تلك الطقوس عنى بها الفلاح "أبو السعيد" أن الاحتلال الإسرائيلي في الأيام التي يتوقع فيها أن تكون الرياح غربية ومستمرة باتجاه قطاع غزة، يعمد إلى إشعال إطارات سيارات "كوشوك" على طول الحدود أو منطقة الرش ليراقب اتجاه تصاعد الدخان، فإن كان باتجاه الغرب تحلّق الطائرات لترش سمومها في الجو، أما إن كان بشكل عمودي أو بالاتجاه الشرقي نحو الداخل فلا يتم الرش.
وقال: "هذه الطريقة بالنسبة لنا (كود) أو (شيفرة) ندرك معناها، وفي صباح الأحد الماضي لاحظنا دخان الإطارات المتصاعد نحو السماء وتوقعنا الرش، ولكن ما باليد حيلة فهل تموت محاصيلنا بسبب الحر؟ لذا قررنا أن نترك مزروعاتنا للرش على أمل توفير المياه لغسلها وغسل التربة.".
وأضاف: "وفي كل الأحوال، الخسارة المادية يتحملها المزارع أما الخسارة الصحية فيتحملها كل من يعيش في قطاع غزة المحاصر، لأنه سيتناول من تلك المحاصيل"، منبهاً إلى أن المحاصيل الزراعية وإن ماتت بسبب السموم فإن تركيبة تلك السموم تبقى في التربة وتحتاج إلى معالجة.
مفتاح "إبادة"
وأكد "أبو السعيد" أن الأعشاب التي يتخذها الاحتلال ذريعة لرش سموم المبيدات الحشرية هي "آخر المتضررين"، وغالباً ما تبقى على حالها لأن الرش لا يطالها بسبب الرياح التي تحملها إلى الداخل، وقال: "حتى الهواء أصبح ملوثاً والتهابات الرئة تغزو مناطقنا السكنية".
الشمام والبطيخ والكوسا والسبانخ والبقدونس وغيرها من المحاصيل تعرّضت للرش من قِبل طائرات الاحتلال التي استغلت اتجاه الريح وحرارة الجو التي دفعت المزارعين لكشف أنفاقهم الزراعية حتى تصيب مزروعاتهم بأكبر ضرر ممكن، مما ينذر بموسم غير محمود.
"أبو السعيد" وزملاؤه من المزارعين أكدوا لـ"فلسطين" أن ما يقوم به الاحتلال ليس له إلا معنى واحد فقط وهو تهجير السكان وإرغامهم على مغادرة المكان أو الموت فيه فقراً ومرضاً وجوعاً مستغلين المنطقة الزراعية المحاذية للحدود مع الأراضي المحتلة عام 1948 على اعتبارها مفتاح "إبادة" قطاع غزة.