فلسطين أون لاين

​في لقاء مع إيمان الزعبوط ابنة أم نضال فرحات

خنساء فلسطين روحٌ تُزهِر

...
غزة - حنان مطير

بزغ الفجر مُنشرِحًا ليستقبلَ طيوره وخيوط الشّمس.. فأعلن منبه الهاتف النقّال انتهاء مهمّته في الانتظار لحين الموعد المُحدّد، ودقّ بصوتٍ عالٍ سرعان ما أيقظَ أم أحمد الزعبوط (48 عامًا).. لم تتراخَ أو تفكّر في استراقِ غفوة، بل فزَّت كمكّوك لم يتوقّف عن الدوران سوى بضع ساعاتٍ ليلية لتجديد طاقتِه ونشاطِه.

انطلقت وعلى لسانها تتسابق كلمات الذكر والتسبيح.. توضّأت وصلّت الفجرَ وسط عتمةٍ مهيبةٍ ثم أمسكت كتابها وانطلقت في أرجاء البيت تحوم، تشير بيدها تارةً وتخفضها أخرى، تعلو بصوتِها ثم تخفضه، وتعيد وتُكرّرـ. وأخيرًا تملَك دماغُها من تلك الفقرة التي أرهقت فكرها.

"فلسطين" التقت أم أحمد صدفةً وهي تغادر جامعة الأمة للتعليم المفتوح وسط قطاع غزّة، تستقل سيارتَها الخاصة ذات اللون السكني الفاتح من نوع "نيسان" وقد عادت تغمرها السعادة والفرح، ففي ذلك اليوم كان حصولها على شهادة البكالوريوس في الدراسات الإسلامية.

لم يكن في ساحة الجامعة الواسعة المكسوّة بعشب الإنجيل الأخضر والمنعكسة عليه أشعة الشمس كأسهم الذهب غيري وإياها، خفضت رأسها لتراني وأشارت لي بعينين مبتسمتين: "وين طالعة؟"، أجبتها بابتسامةٍ أكبر وبلا تردّد: "غزة..".

"تعالي.." نادتني فلبّيتُ من فوري، وقلت في عقلي "يا لحظّي الأبيض أمام ذات الخمار الأسود الأنيق"، سلّمت عليها وشكرتها على لفتتِها اللطيفة.

"أنا حنان مطير صحفية تعشق الميدان واللفّ والدوران.. عرّفتها بنفسي فضحكت لطريقة تعريفي غير التقليديّة. "وأنا أم أحمد الزعبوط؛ ابنة أم نضال فرحات، بالتأكيد تعرفينها.."، ردّت باتّزان.

التفتُّ إليها وقد امتلأ قلبي حُبًا.. "وهل من عاقلٍ لا يعرف خنساء فلسطين، الله يرحمها، إنني كلما سمعتُ اسمها أضاء وجهُها في مخيلتي كالقمر، واستحضرتها تحمل السلاح وتودّع ابنَها، كأنها جيشٌ من رِجالات المقاومة، إنني لا أملك شيئًا من عظمتِها كامرأة".

سألتُها: "هل أنتِ مُحاضِرة في جامعة الأمّة؟".. "بل طالبة"، "واو.. الحظّ يبتسم لي من جديد، فقد جئت لأحصل على أرقام النساء اللواتي درسْنَ في سنٍّ متأخّرة وتميّزن لعمل قصةٍ صحفيةٍ حولهنّ، لكنني عُدتُ بخفيّ حنين إذ كان المسؤول عن هذا الأمر قد غادر الجامعة باكرًا، وها هي الصدفة تجمعني بكِ".

ابتسَمَت وردّت بسعادة: "بفضل الله، اليوم حصلت على شهادة التّخرج، ها هي في الكرسي الخلفيّ"، إذًا احكي لي حكايتك لا بد وأنها مميزة.. سألتها.

تركتُ الدراسة

تروي لـ"فلسطين": "كنت في الصّف الثامن حين ذهبت مع عائلتي لليبيا، ودرستُ تلك السنة وتميّزت، لكنّ إلزامًا كان علينا في الصف التاسع أن نرتدي الزيّ العسكريّ والخضوع للتدريب على أيدي الشّباب، فلم يرق الأمر لي ولا لعائلتي وأنا التي كنت أرتدي جلبابًا مفصّلًا خصيصًا للمدرسة من دون الطالبات".

وتقول: "توقّفت عن الدراسة ولم أحصل على شهادة الصفّ التاسع، وحاوَلتْ والدتي تعويضي بحضور النّدوات وقراءة القصص والكتب، إلى جانب الترفيه والخروج في فسحٍ عائلية، وفي عمر السابعة عشرة عدنا لغزّة لألتقي حينها بنصيبي، ثم الزّواج وترك الدّراسة لأجل غير مسمّى".

مرّت الشهور والسّنون، وأنجبت أم أحمد البنين والبنات، كانوا مميزين في دراستهم فتسعَد لذلك إذ تشعر بأن تميّزهم يعوّضها خروجَها من المَدرسة في سنٍ مبكرة وفق قولِها.

كبرت الصّغيرات الأربع وصِرنَ كما الزهرات في حديقة منزل دافئ، وواحدة تلو الأخرى يتقدّم إليها فارس الأحلام فيخطفها وينطلق، توضح أم أحمد: "لقد جمعنَ بين الزواج والدراسة الجامعية، فأنجبنَ وصِرنَ يأتينَ بأطفالهنّ إليّ أهتمّ بهم وأرعاهم".

النجاح.. توازن

ثم لم يعد في البيت صغير، فلاحت إليها فكرة العودة للدراسة، وكانت حينها في عمر (43)، تروي: "درستُ الصفّ التاسع، والثانوية العامة في آنٍ واحد، ونجحت بفضل الله وحصلت على معدل (81%)".

كانت أم أحمد تستيقظ باكِرة، تذاكر دروسَها مع الفجر أو قبله، ثم تمام السادسة أو السابعة يستيقظ زوجها وأولادها على رائحة طعام الإفطار، توضح: "كانت عائلتي على رأس قائمة أولوياتي واهتماماتي، ثم ثانيًا كانت دراستي، فجعلتُ جدول دوامي الجامعي متأخرًا قليلًا، فأنا أؤمن أن النجاح هو التوازن في الحياة، لذلك كان لا بدّ من تحيُّن الفرصة التي أختار فيها وقت دراستي، فاخترت الوقت الذي كبر فيه أبنائي وباتوا قادرين على الاعتماد على أنفسهم".

وتذكر أن بناتها المُتزوّجات كُنّ يتّصلنَ بها أوقات الامتحانات ويخبرنها أن غداءها والعائلة لليوم من مسئوليتهنّ للتخفيف عنها شيئًا من الضغط، تعلق ضاحكةً: "يحاولن ردّ الجميل، فحين كُنّ يرجعنَ من جامعاتهنّ يأخذنّ أولادهنّ من عندي وحلّة الطبيخ أيضًا".

تميز رغم الضغوط

نجحت أم أحمد وحصلت على معدل جيد جدًا في الثانوية العامة بالرغم من الظروف الصعبة الكثيرة التي مرّت بها، ومنها وفاة والدتها أم نضال فرحات وحزنها الشديد عليها والحديث للإعلام لفترة طويلة، وذلك بعد مرافقتها في مصر فترة مرضها مدة 16 يوما متفرقات، إلى جانب الاهتمام ببناتها المتزوجات، خلال أيام الحمل والولادة وغيرها –وفق قولها-.

تصف: "كنت أنتظر الدقيقة التي تغفو فيها والدتي فأمسك الكتاب، وأنتظر قدوم أحد أصدقاء العائلة المتخصصين باللغة الإنجليزية لزيارة والدتي كي يساعدني في ترجمة بعض الجمل في كتاب اللغة الإنجليزية، فلم أُهدِر دقيقة من وقتي وأتركها بلا قيمة، فيما كان ابني يدرس الثانوية العامة في نفس السنة، وكان يساعدني في الرياضيات".

لكنها تفوّقت عليه في مادة الرياضيات وكذلك في المعدل النهائي في الثانوية العامة، الأمر الذي أحزنَها لكنه أسعده –كما تقول-.

وتضيف: "بالرغم من الضغط الشديد الذي كنت أشعر به في كثير من الأحيان في دراستي والتوفيق بينها وبين أمور بيتي، إلا أنني كنت أخلق لنفسي أوقاتًا مميزة للدراسة وممتعة، فأنزل إلى شاطئ البحر برفقة خالتي الساعة السادسة صباحًا، أتركها تتمشّى فيما أذاكر بعضًا من دروسي حتى العاشرة تقريبًا".

متعة عمل الخير

وفي الجامعة أيضًا لم تترك أم أحمد فرصةً في تقديم العون والمساعدة للطلبة، فكانت وما زالت تقدم الدورات والندوات الدعوية وفي التنمية البشرية ومختلف النشاطات، ومن بينها تأسيس فكرة "فيد واستفيد" والتي تقوم على تجميع الكتب الجامعية المستعملة وتقديمها لمن يحتاجها من الطلبة غير القادرين على توفيرها.

توضح: "عمل الخير سعادةٌ ومتعةٌ، لقد كانت أمي تقول لي ولإخوتي وأخواتي دومًا: "أينما كنت ازرع الخير دومًا"، فتجدني كلما فعلت خيرًا أشعر بأمي ترافقني وتساندني وكأنها معي".