واثقًا جريئًا رابط الجأش قويًّا كان تحت قوس محكمة الظلم الصهيونية، وأمام قضاة البغي الإسرائيليين، لم يخفه أنه محاطٌ بسريةٍ من جنود الاحتلال، ومكبلٌ بالقيود والسلاسل والأغلال، وممنوعٌ من الكلام أو الاقتراب من أي فردٍ من عائلته، مع ذلك كله كان باسم الثغر وضاء المحيا، يضحك بكبرياء ويقف بزهوٍّ وعلياء، لا يبدي ندمًا ولا يظهر خوفًا، ولا يستجدي قاضيًا، ولا يطلب الصفح من الطغاة، ولا يعترف أمامهم بأنه مذنبٌ إذ قاتلهم، أو أنه أخطأ إذ قاومهم، وارتكب جريمةً إذ قتلهم، وقد وثقت عدسات المصورين وِقفته، وسجلت كبرياءه، وأظهرت ابتسامته، وكانت شاهدةً على استعلائه وشموخه، وعلوِّ صوته وإصراره على عمليته، واعترافه مفاخرًا بها، مزهوًّا بنتائجها.
إنه الشاب عمر العبد ابن بلدة كوبر غربي مدينة رام الله، منفذ عملية (حلميش) التي قتل فيها ثلاثة مستوطنين وأصاب رابعةً بجراحٍ خطيرة، وكان قد نجح في الحادي والعشرين من تموز (يوليو) عام 2017م في الدخول إلى مستوطنة (حلميش) شمال غرب مدينة رام الله، فأثار بعمليته الرعب بين الإسرائيليين، وأربك الأجهزة الأمنية وكبار ضابط جيش الاحتلال، إذ أرعبهم كثيرًا أن يقوم شابٌّ بمفرده بهذه العملية النوعية، فينفذها بحرفيةٍ عاليةٍ، ويتحقق من نجاحه في الوصول إلى أهدافه، قبل أن يتوارى عن الأنظار مبتعدًا، ويختفي عن العيون التي تراقب وتلاحق، وتنسق وتتبادل المعلومات.
لعل الفلسطينيين يذكرونه جيدًا، فهو أحد الذين هبوا من أجل القدس، وثاروا دفاعًا عن حرمة المسجد الأقصى، وأبدى غضبه من الاعتداءات الإسرائيلية المتكررة على الفلسطينيين عمومًا وعلى حرمة المسجد الأقصى على وجه الخصوص، لذا عزم على الانتقام لشعبه والثأر غيرةً على القدس والأقصى، ودون قبل أن ينطلق على صفحته في (فيس بوك) وصيته، ومضى بهمةٍ وعزمٍ وهو يعلم أنه قد يقتل أو يعتقل، وما كان يظن أنه سيتمكن من الخروج من المستوطنة المحصنة سالمًا، ومع ذلك ما تردد ولا تراجع عن عزمه الذي انطلق لأجله، علمًا أنه ما كان يحمل بيديه غير السكين التي استخدمها في طعن المستوطنين الأربعة.
غضب ليبرمان وزير حرب العدو وجنرالات وضباط جيش الاحتلال وأعضاءٌ في الكنيست الإسرائيلي من ابتسامته، وَعَدُّوها سخريةً منهم واستهزاءً بهم، وعدم مبالاة بمحكمتهم، وعدم اكتراثٍ بحكمهم، فاغتاظوا كثيرًا منه وانتابهم من طمأنينته قلقٌ كبير، وخوفٌ من ثباته غير قليل، وهو البسَّام أمامهم، الشامخ بينهم، العالي الجبين أمام أغلالهم، العنيد أمام بطشهم، الواثق أمام قوتهم، القوي بمفرده أمام كثرة عددهم ووفرة سلاحهم، فطالب الناقمون عليه الغاضبون من ابتسامته بتنفيذ حكم الإعدام فيه، علَّ الإعدام يقتل بسمته ويطفئ بريق الأمل في عينيه، ويسكت صوته العالي، ويطمس حقه المتين وينهي حلمه المبين ووعده الأمين.
لكن قضاة محكمة الاحتلال العسكرية لم يكتفوا بإصدار حكمٍ بالسجن على عمر مدة أربعة مؤبداتٍ، بل ألزموه بدفع غرامةٍ ماليةٍ باهظة تتجاوز قيمتها نصف مليون دولار أمريكي، وذلك تعويضًا لعائلات المستوطنين الثلاثة الذين قتلوا، وللرابعة التي أصيبت بجراحٍ خطيرة، وأوصوا بعدم الإفراج عنه ضمن أي صفقةٍ كانت، وألا يشمله أيُّ "عفوٍ" قادم، ومع هذه الأحكام القاسية، وهذا الحقد البيِّن الجلي لم تغادر البسمة محيا عمر، وكأنه يستهزئ بسجانيه، ويقول لهم: قسمًا بالله سأخرج من سجنكم، وسأحطم قيودكم، وسـأنزع الأغلال رغمًا عن أنوفكم، وسأنعم وبلادي بالنصر والحرية، وسترون قريبًا بأم أعينكم ما أعدكم به يقينًا.
لعله ليس الوحيد من بين المقاومين الفلسطينيين الأسرى في سجون الاحتلال البغيض، الذين سبق محاكمتهم، ومثلوا مثله أمام قوس الظالمين، ووقفوا في المحكمة واثقين مطمئنين، واستمعوا ساخرين لحكم القضاة العسكريين، فما اهتز جنانهم، ولا رفَّ جفنهم، ولا ارتعدت فرائصهم، ولا قبلوا أي مساومةٍ بينهم وبين عدوهم، بل تشهد السجون الإسرائيلية غيره الكثير من الأبطال الذين أغاظوا القضاة بابتسامتهم، وأغضبوهم باطمئنانهم، وأخرجوهم عن طورهم ليقينهم بالحرية القادمة والفرج القريب.
وقد اعتاد قضاة المحاكم العسكرية الإسرائيلية الطلب من النيابة العامة العسكرية عرض صفقةٍ على الأسرى، بـ"الدخول إلى المحكمة معترفين بذنبهم، ومقرين بخطئهم، ليصدر القضاة العسكريون حكمهم المخفف عليهم"، علمًا أن الحكم المخفف لا يعني أبدًا "العفو" أو إصدار أحكامٍ بسيطةٍ، إذ إن أغلب أحكام الصفقات تتجاوز المؤبد الواحد وعشرات السنوات أيضًا، ولهذا اعتاد الأسرى رفض الصفقات، وعدم الخوض في مساراتها المهينة ودهاليزها الكاذبة المخادعة.
وسجل الأسرى الفلسطينيون الذين كان آخرهم عمر العبد في المحاكم العسكرية الإسرائيلية أنصع الصفات، وأكثرها عزةً وكرامةً، وأبهاها وطنيةً وقوميةً، وأروعها بطولةً وتحدٍّ، وهو الأمر الذي كان يغيظ الإسرائيليين دومًا، علمًا أن بعض القضاة العسكريين الذين كانوا يغتاظون من بسمة الأسير وثبات جنانه وهو بين جنودهم المدججين بالسلاح مصفد بالقيود والأغلال يضيفون إلى حكمهم الصادر عليه ستة أشهر عقوبة الابتسامة، أو عقوبةً على ردوده العزيزة، وعباراته المستفزة، وتهديداته الخطيرة، ونظراته الواثقة، وآماله الأكيدة في النصر والعودة والتحرير، وزوال الاحتلال ورحيل الإسرائيليين.
إنه عمر الشاب الذي أتم قبل أيامٍ عامه التاسع عشر، فما أقعده صغر سنه وحداثة عمره، وما صده قلة خبرته وضعف إمكاناته ورداءه سلاحه، بل مضى واثقًا ونفذ قاصدًا فالتحق بعمليته الرائدة بركب الأيقونات الفلسطينية الخالدة، والرموز الوطنية الباقية، فحفر بعمليته الجريئة اسمه بين المقاومين، وخلد ذكره مع الأسرى الأبطال والشهداء الكرام، فحق للشعب الفلسطيني أن يحفظ اسمه وأن يذكر فعله، وأن يفاخر بمقاومته ويزهو بعمليته، وليعلم العدو أن أمثاله من شعبنا كثيرون، وأشباهه بيننا وفي أجيالنا أكثر، وأن لا أحد من أبناء هذا الشعب سينسى وطنه، ويفرط في قضيته، ويتردد في الدفاع عنها، والذود عن حياضها الشريفة وبقاعها المقدسة وأرضها الطاهرة وأقصاها المبارك.