فلسطين أون لاين

​بسبب نظرة المجتمع السلبية

"الجاهلية الأولى" لا تزال تطارد "أبو البنات"

...
غزة - عبد الله التركماني

بخطوات بطيئة يمشي "أبو نورة" مطاطئا رأسه بين الناس، وعلامات "الكشرة" بدت جزءا من ملامحه ليظن من يراه أنه يحمل هموم الدنيا على كتفيه، وذهنه مشغول على مدار الساعة بحثاً عن بصيص أمل نحو إنجاب طفل ذكر يحمل اسمه إلى جانب ستة بنات أنجبهم سابقاً.

ويقول "أبو نورة" أو هكذا أطلقوا عليه أهالي الحارة نسبة إلى اسم ابنته الكبرى: إنه يشعر بخزي وضعف بسبب إنجابه البنات فقط، مشيراً إلى أنه بات موضع تندر بالنسبة إلى أهالي الحارة كونه يكنى باسم ابنته الكبرى.

وأضاف لـ"فلسطين": "أتمنى أن يرزقني الله بطفل ذكر يحمل اسمي وأصبح أُكنى باسمه أمام الناس"، مشيراً إلى أن إنجاب الأنثى يختلف تماماً عن إنجاب الذكر بسبب تمييز المجتمع بين النوعين بشكل كبير.

عوناً وسنداً

وأوضح أنه يريد ذكراً يكون عوناً له وسنداً ليتفاخر به أمام الآخرين، لافتاً النظر إلى أنه لا يستطيع دفع بناته لمساعدته في التسوق مثلاً أو شراء الأشياء أو الحديث بالنيابة عنه مع الآخرين عند غيابه، لأن ثقافة المجتمع ترى أن مكان الأنثى في بيت والدها أو زوجها.

ورغم أن أحاديث نبوية كثيرة تحدثت عن فضل تربية البنات، مثل قول رسول الله صلى الله عليه وسلم (من ابتلي من هذه البنات بشيء فأحسن إليهن كُنّ له ستراً من النار) إلا أن إنجاب الأنثى دون الذكر، نصيب لا يرغب معظم المواطنين أن يكونوا من أصحابه، فالحاجة إلى ذكر كالرنين الذي يدق باستمرار في ذهن الرجل، ليحمل اسمه وليحيي سيرته بعد وفاته، أما البنات فمصيرهن وخيرهن إلى أزواجهن كما يرى المجتمع.

هذا كان حال مصطفى عبد الحفيظ (39 عاماً) والذي من الله عليه بأربع بنات، حيث يرى أن عدم إنجابه ذكر مع تقدمه بالسن يعد إنذاراً خطيراً، وقال: "في حال تقدم بي السن وأصبحت عاجزاً من سيأويني عندما يكون بناتي في بيوت أزواجهن، هل سأكون في الشارع دون ولد يرعاني؟".

وأوضح عبد الحفيظ لـ"فلسطين" أنه قرر في ذات نفسه أنه لن يدخل عامه الخامس والأربعين دون إنجاب ذكر، حتى لو اضطر للزواج من أخرى، مشيراً إلى أن إنجاب الولد أمر يرفع عنه الكثير من المسؤوليات، وكذلك الحرج من تساؤلات العامة المستمرة حول عدم إنجابه الذكور.

وتابع: "الحاجة إلى الذكر أمر ملح جداً، حتى أولئك الذين يدعون القناعة تكون أنفسهم معلقة بالذكور، لأن الولد سيكون سنداً وعوناً لشقيقاته بعد وفاة أبويه، وسيشكل لهم الظهر الحامي والملجأ عند اعتراضهم أي مشكلة في حياتهم".

عظمة البنات

ولكن لدى "محمد سرور" (52 عاماً) نظرة مغايرة تماماً عن ما سبقه، فرغم أن الله رزقه بخمس بنات دون ولد، إلا أنه يبدو قانعاً وراضياً وسعيداً بما قسمه الله له.

يقول سرور لـ "فلسطين": "يقول الله تعالى (يهب لمن يشاء إناثا ويهب لمن يشاء الذكور..)، وعندما قدم الله ذكر الأنثى على الذكر كان لحكمة بالغة، فالبنات فيهن الراحة والمودة والهدوء، ولطالما كانت البنت حريصة على والديها عند كبر سنهما أكثر من الذكور، لذلك أنا مقتنع تماماً بأن بناتي الخمس هن أغلى من كل الدنيا وما فيها".

وأوضح أن الشعور بالخزّي بسبب إنجاب البنات فقط هو أمر معيب ومخزٍ بحد ذاته، وأضاف: "لماذا هذا الشعور وقد رزق الله أشخاصاً عظماء بالبنات فقط، مثل سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام الذي يمثل القدوة الأولى لنا جميعاً، حيث رزقه الله بأربع بنات وتوفي جميع الأولاد، وكذلك نبي الله لوط عليه السلام رزق بأربع بنات، كما ولد للإمام أحمد بن حنبل بنتاً وقال (الأنبياء آباء البنات)".

الشعور بالعيب بسبب إنجاب البنات دون الذكور، يعد عادةً من عادات الجاهلية، حيث كان العرب قديماً لا يمنحون للبنت وزنا أو قيمة ويقولون (دفن البنات من المكرمات)، حتى جاء الإسلام ورفع من قيمتها ورسخ كرامتها وجعل المفاضلة بين الأجناس بالتقوى وليس بالنوع.

نظرة جاهلية

أستاذ علم النفس الاجتماعي د. درداح الشاعر، يرى أن ثقافة المجتمع الذكورية تنظر إلى من ينجب الإناث فقط بنظرة دنيوية وفيها نوع من النقص وعدم المساواة، معتبراً أن هذه النظرة "تعد مشهدًا من مشاهد الجاهلية الأولى".

وقال الشاعر لـ"فلسطين": "إنجاب الذكور أو الإناث جزء لا يتجزأ من الكيان البشري ولا فرق بينهما، ولكن الثقافة ذكورية تميل إلى إنجاب الذكور على حساب الإناث، لذلك تنظر بنوع من الدونية والنقص تجاه من ينجب الإناث فقط".

وبيّن أن النظرة المجتمعية تجاه هذه المسألة ترتد في أصولها إلى الجاهلية الأولى، حيث كان القوم يعير الإنسان في حال أنجب أنثى، وكان والد الأنثى يتوارى عن القوم من سوء ما بشر به.

وأوضح الشاعر أن إنجاب الإناث من الناحية الفسيولوجية هي مسئولية الرجل وليست المرأة، فالمرأة على استعداد دائم أن تنجب الذكور ولكن من يحدد الجنس هو الرجل، مشيراً إلى أن الإنسان لا يعرف أين يكمن الخير في إنجاب الذكور أم الاناث، "لذلك لطالما كان هناك أناس أنجبوا الذكور وتمنوا لو لم ينجبوهم، وهناك من أنجب الإناث وتمنوا لو أنجب كل نسله من الإناث".

ولفت النظر إلى أن الإنسان يهتم كثيراً بنظرة المجتمع إليه، لذلك يشعر بالضيق والتوتر والنقص في رجولته وأنه أقل من غيره، "لذلك يشعر بمزيج من المشاعر الدالة على عدم الرضا على حياته لذلك ربما يلجأ إلى الانطواء وعدم التكيف مع المجتمع".

وشدد الشاعر على ضرورة أن يتوفر لدى الإنسان المسلم إيمان قوي بأن الخير هو ما يقدمه الله له، وأن يغلب الإسلام على الجاهلية التي لا تزال تتطبع ببعض العادات المجتمعية.