ما أشبه اليوم بالبارحة، البارحة في التاريخ، قد تكون يوماً أو شهراً أو قرناً وأكثر.
بعد المؤتمر اليهودي الأول الذي عقد في بازل بسويسرا 29-31 أغسطس 1897 والذي أعلن فيه عن تأسيس الحركة الصهيونية العالمية بزعامة ثيودور هرتزل، أرسل هرتزل رسالة إلى السلطان عبد الحميد الثاني يعرض عليه قرضاً من اليهود يبلغ عشرين مليون جنيه إسترليني، مقابل تشجيع الهجرة اليهودية إلى فلسطين، ومنح اليهود قطعة أرض -من أراضي الإمبراطورية العثمانية- يقيمون عليها «حكماً ذاتياً». والمقصود طبعاً فلسطين.
وقد رفض السلطان عبد الحميد مطالب هرتزل. ومما ورد عنه في ذلك قوله: «إذ إن الإمبراطورية التركية ليست ملكاً لي، وإنما هي ملك للشعب التركي فليس لي أن أهب أي جزء فيها، فليحتفظ اليهود بملايينهم في جيوبهم فإذا قسمت الإمبراطورية يوماً ما فقد يحصلون على فلسطين دون مقابل، ولكن التقسيم لن يتم إلا على أجسادنا»، اليوم، وبعد أكثر من قرن، تتكرر هذه الجملة -حكماً ذاتياً لليهود- لكن ليس من الماضي بل عن المستقبل الذي ينتظر إسرائيل على يد غلاة التطرف الصهيوني بزعامة نتانياهو.
البروفيسور الإسرائيلي، تسفي سفر، أستاذ الدراسات الأفريقية في جامعة إنديانا بوليس حاز شهرة كبيرة، لأنه كان أول من تنبأ عام 1995 بانفجار ما سمي بـ «الربيع العربي»، لكن أخطر ما تنبأ به تمثل في تأكيده بأن التحولات التي ستنجم عن سقوط بعض الأنظمة العربية، وتفكك بعض الدول العربية، ستوفر ظروفاً مواتية لوجود إمبراطورية ذات شعارات دينية ستسيطر على القارات التي تشكل العالم القديم (أوروبا، إفريقيا، آسيا، أستراليا).
متوقعاً أنه في غضون عقد ستتوقف الولايات المتحدة عن لعب أي دور خارجي، وذلك لأول مرة منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية، ما يفسح المجال أمام بروز الإمبراطورية الدينية المزعومة، وكان ترامب أرسل للكونغرس خطة استثمارية بقيمة 1,5 تريليون دولار للإنفاق على البنى التحتية، ما يؤكد أن ترامب ماض في تطبيق شعاره الانتخابي «أميركا أولاً». كما يرجح كلامه هذا ما ذهب إليه البروفيسور الإسرائيلي سفر الذي ينصح القيادة الإسرائيلية بالإسراع للتفاوض مع الحركات المتشددة فيما إسرائيل ما زالت قوية، وعدم الالتفات للقيادة الفلسطينية الحالية.
ويقول إن أقصى ما يمكن أن ترنو إليه إسرائيل هو أن تقبل الإمبراطورية الجديدة ببقاء سلطة حكم ذاتي لليهود في المنطقة، على حد وصفه. ونظراً لأن إسرائيل عاجزة عن التأثير على التحولات المتلاحقة في العالمين العربي والإسلامي، فإنه يتوجب عليها أن تحرص على تحقيق مصالحها من خلال الإسراع بالتوصل إلى تسوياتٍ تنقذها من الموت.
ما يلفت في التطورات الراهنة والتوقعات المستقبلية أن مشروع الحركة الصهيونية تضخم بحيث لم يعد يكتفي بحكم ذاتي لليهود، بل تمدد في أربع دول عربية محيطة بفلسطين. وثمة في أميركا من هم أكثر صهيونية من الصهاينة. فقد وجه السفير الأميركي في إسرائيل دافيد فريدمان، انتقادات لصحيفة «هآرتس» العبرية لرفضها الاستيطان في الأراضي الفلسطينية.
وفي خطوة غير مألوفة كتب فريدمان في تغريدة على حسابه في «تويتر»: «ما الذي حل بـ«هآرتس»؟ أربعة أطفال صغار يجلسون في مأتم لأبيهم المقتول، وهذا المنشور يدعو مجتمعهم «جبل من اللعنات»، اليس لديهم حشمة؟».
وكان فريدمان يرد على الكاتب في الصحيفة جدعون ليفي الذي انتقد، في مقال، السفير الأميركي بسبب تبرعاته للمستوطنات الإسرائيلية. ورد عاموس شوكين، ناشر صحيفة «هآرتس»، سريعاً على السفير الأميركي وكتب في تغريدة «أيها السفير، إن جدعون ليفي على حق».
وأضاف شوكين «ما دامت سياسة إسرائيل التي تؤيدها حكومتكم وأنفسكم تعيق عملية السلام، والضم العملي للأراضي، وإدامة الفصل العنصري، ومكافحة الإرهاب، ولكن على استعداد لدفع الثمن لذلك، فإنه ستكون هناك المزيد من المآتم الدينية».
ثمة انقسام واضح داخل (إسرائيل) حيال مستقبل «الدولة». المتطرفون يمتطون منطق القوة دون عقل فيما المعتدلون وبخاصة المفكرون والمؤرخون يحذرون من خطورة التعامي عن حقائق التاريخ، بل ومن خطورة أن يتحول من كان يريد حكماً ذاتياً، فقط حكماً ذاتياً لليهود إلى ديناصور نهايته الانقراض!