يقول المثل الشعبي: إن من يزرع الورود يجنيها، ومن يزرع الأشواك يحصدها، إلا في حالة هذا الأب الفلسطيني "أبو محمد" وهو اسم مستعار لبطل قصتنا الذي يعيش في مخيم النصيرات، فهو والدٌ يبيع السُّم ليشتري بثمنه الحليب.
"أبو محمد" هو والد لتسعة أطفال، أكبرهم سناً فتاة تبلغ من العمر 12 عاماً، وأصغرهم طفل حديث الولادة لم يبلغ بعد أسبوعه الثاني من العمر، يخرج كل صباح من منزله يحمل "صُرة قماشية" يضع في داخلها أنواعاً مختلفة من السموم (سم فئران وسم الصراصير) ويتجول في السوق بهدف بيعها.
سمومه وهمومه
ينقضي نهار "أبو محمد" في السوق ويعود مع غروب الشمس محملاً بسمومه وهمومه وكيس من الدقة أو الزعتر، هي قوت أبنائه في ذلك اليوم، وأحياناً يعود فارغ اليدين كما هو فارغ الجيوب، فتقليص الرواتب وتعثرها انعكس على القدرة الشرائية للمواطنين مما أثر سلباً حتى على الباعة المتجولين أمثال "أبو محمد".
خروجه للعمل لم يسعفنا للحديث معه، فكان لقاؤنا مع زوجته "أم محمد" والتي تحدثت إلينا رغم ما فيها من ألم فهي لا تزال "نفساء".
عن حال زوجها تقول لـ"فلسطين": "عمله شاق، والسوق يعيش حالة من الركود لم نعهدها من قبل، في بعض الأيام يعود بالقليل، وأيام أخرى لا يبيع أي شيء من بضاعته".
وتضيف: "نبذل قصارى جهدنا حتى لا نضطر لشراء مؤن جديدة غير التي تمنحنا إياها وكالة الغوث (أونروا) فاعتمادنا كله عليها، خاصة الطحين والحليب والسكر"، مشيرةً إلى أنها تضطر للاستدانة من "سلفتها" كمية من الدقيق للخبز، وعندما تستلم مؤنها تعيد لها تلك الكمية.
وعبرت "أم محمد عن تخوفها وزوجها من تقليص مساعدات الأونروا للأسر الفلسطينية، مؤكدة اعتمادها عليها بشكل كلي، فعائلتها لا تستطيع توفير المتطلبات الغذائية في أدنى مراحلها إلا من خلال هذه المساعدات.
نقوط "البيبي"
رغم صغر عمر أطفالها، إلا أنها أطلعتهم على الوضع الاقتصادي لقطاع غزة، وشرحت لهم أن كثيراً من المواطنين انقطعت رواتبهم أو تم تقليصها، مما أفقدهم القدرة على الشراء، ولذا فإن والدهم يعود إلى المنزل فارغاً بسبب عدم البيع وذلك لعدم قدرة الناس على الشراء.
وتقول: "أعدهم أن والدهم سيأتي لهم يما يطلبونه، وأن الحال سيصبح أفضل عندما يتم فتح المعابر وإعادة الرواتب لأصحابها، وعندها سوف يشتري لهم والدهم ما يتمنون"، مضيفة أن الهدايا التي تأتيها من الأقارب لطفلها حديث الولادة تستثمرها لصالح باقي أطفالها.
وتتابع: "أمس، زارني أخي وأعطاني 20 شيكلا هدية للطفل الجديد، أضمرت في نفسي أن أعطي أطفالي مصروفًا لم يأخذوه منذ ثلاثة أيام، ولكنهم في الصباح الباكر خرجوا دون أن أتمكن من صرفها إلى (فكة).. سأعوضهم غداً بإذن الله".
وتوضح أن لديها ثلاثة من الأطفال في المدرسة ورابع في سن الروضة، لم يأخذوا مصروفًا منذ عدة أيام، إلا أن مدرسة الأونروا التي يدرسون فيها تسأل الأطفال من منكم لم يأخذ مصروفه اليومي، فيرفع أطفالها أيديهم، وعندما تعلم المدرسة أنهم لا يأخذون مصروفهم اليومي فإنها تعطيهم بطاقات للشراء من مقصف المدرسة، أو تعطيهم نقودًا حتى يشتروا كباقي الأطفال.
وتتساءل: "في حال حصول التقليصات المزمعة، هل ستستمر المدرسة في منحهم مصروفًا ومساواتهم بباقي التلاميذ؟".
وتشير إلى أن طفلتيها الكبيرتين طلبتا كتاب "الشامل" الذي يحتوي على تمارين في جميع الدروس للتمرين والدراسة، فوعدتهم أنها ستشتريه في حال وصلها "نقوط" جديد لشقيقهم.
نسيان جائع
وأكثر ما يؤرق "أم محمد" في مسألة تقليصات الأونروا المزمعة هو توفير الحليب، إذ تقول: "وحدي لا أستطيع أن أشبع الطفل من الحليب، وأحتاج للحليب الصناعي الذي لا يمكن لي توفيره إلا من خلال الحليب الذي توزعه الوكالة مع المؤونة الغذائية".
وتضيف: "بعض الهدايا التي وصلتني للتهنئة بالمولود الصغير كانت كرتونتي بيض وعلبة حلاوة، أقتات منها حتى يستطيع جسمي أن يكون الحليب اللازم للطفل، ودون تلك الهدايا فإننا نعيش على الدقة والزعتر".
حالة "أم محمد" ليست فريدة ولكنها من بين الحالات الأكثر ألما في قطاع غزة، والتي تعدّ المساعدة الغذائية التي تقدمها الأونروا هي سبيلها للبقاء على قيد الحياة، ودونها لا يمكن لهذه العائلات أن تعيش، إلا إن تسولت في الأسواق.
وتبقى ورقة مساعدات "الأونروا" هي ورقة الرهان التي تؤرق الاحتلال الإسرائيلي على اعتبارها من يبقى حق العودة للاجئين الفلسطينيين قائما حتى اليوم رغم مرور كل هذه السنوات على نكبة فلسطين منذ عام 1948، ظناً منه أن هذه الورقة إن سقطت وانتهت انتهى معها حق العودة، والسؤال المشروع الذي يطرح نفسه هنا، هل يقدر على النسيان.. جائع؟!