تلقى مدينة القدس تضامنًا واسعًا في كثير من العواصم والبرلمانات العربية والإسلامية منذ قرار الرئيس الأمريكي دونالد ترامب ضد القدس، كان آخرها المؤتمر الذي عقد في الأزهر الشريف بالقاهرة تحت عنوان: "نصرة القدس وتحديد مسارات التضامن والدعم"، بمشاركة واسعة من نحو ٨٦ دولة.
فالقدس القضية الحساسة والمهمة جدًّا عند العرب والمسلمين، هي موطن لمئات الآلاف من الفلسطينيين المخنوقين اقتصاديًّا، والمحرومين أبسط حقوق الإنسان، وما يصفها الاحتلال بالقدس الشرقية هي مساحة كبيرة من الأراضي التي تمتد أميالًا داخل الضفة الغربية، بها 22 قرية فلسطينية، وقد صودرت أراضيها لإتاحة بناء مستوطنات يهودية، وباتت تلك القرى الفلسطينية القديمة محاطة بمستوطنات سكانها من اليهود، بالمعنى الحرفي: باتت مخنوقة حتى الموت.
وكما يقولون أهل مكة أدرى بشعابها؛ فالمقدسيون يعرفون كيف تعامل الاحتلال مع المدن والقرى الفلسطينية المجاورة، مثل بيت لحم والخليل والناصرة وغيرها بالتوسع والتمدد الاستيطانيين، فأصبحت شبه مهودة، فيمكنهم أن يتوقعوا تطبيق النموذج نفسه على مستقبل القدس، أعني بطش المحتل الإسرائيلي الذي يصادر منهم باستمرار أراضيهم وحقوقهم، ويرسخ "الوقائع على الأرض"، وفي نهاية المطاف يسيطر سيطرة كاملة، ويحول المدينة بطريقة لا يمكن الرجوع عنها.
هؤلاء الذين يتصورون أن العرب والمسلمين سيذعنون ببساطة أمام الاستعراض "الترامبي" للقوة الحاسمة إنما يلعبون بالنار، فإن كان العالم العربي منقسمًا ومشتتًا بسبب الاستتباعات المؤثرة للاضطرابات السياسية التي شهدها خلال السنوات القليلة الماضية؛ فإن العبث بالقدس سيكون حافزًا على رد عربي إسلامي موحد ومركز، وسيكون هناك اضطراب هائل في أنحاء المنطقة ومطالب بالرد، وإذا أخفقت الحكومات في التحرك فسيمنح ذلك المتشددين الإيرانيين والجماعات السنية المتطرفة ما يريدونه لإحداث مزيد من الاضطراب في المنطقة.
ربما اختفت فلسطين من الرادار بعض الوقت، لكنها تظل "الجرح الغائر الذي لا يلتئم في القلب"، وانتهاك القدس والاضطراب في الأراضي الفلسطينية المحتلة من شأنهما أن يزيلا القشرة عن ذلك الجرح، مذكرًا العرب بضعفهم وعجزهم عن التحكم في تاريخهم في مواجهة خيانة الغرب، وتجاهل هذا الشعور ستكون له عواقبه حتمًا.
لا شك أن الاجتماعات والمؤتمرات كلها جهد مشكور وتضامن ضروري وهام، ولكن المطلوب تنفيذ أعمال فعلية لا مجرد بيانات، واتخاذ خطوات حقيقية ميدانية لمواجهة التحديات، أيضًا كل أشكال التضامن والرفض هذه لم توقف بناء منزل استيطاني واحد في القدس والضفة، ولم تجعل الحكومة الإسرائيلية اليمينية بقيادة نتنياهو تتوقف _ولو قليلًا_ عن مخططاتها لتهويد القدس وضم مناطق بالضفة رسميًّا إليها، كذلك تسعى إلى ضم المستوطنات المحيطة بالقدس إلى المدينة، وإقامة قطار هوائي يساهم في تعزيز الضم والاستيطان.
إن القدس والقضية الفلسطينية عمومًا تواجه تحديات مصيرية، والمطلوب استبدال بهذه البيانات العديمة الجدوى عمليًّا ما هو ميداني وواقعي وفعال، وما دام ترامب يهدد القدس التي يجتمعون للدفاع عنها عليهم مواجهة التهديد بالتهديد كسحب السفراء، ولو مؤقتًا _مثلًا_ أو التهديد بسحب الأرصدة العربية والإسلامية من البنوك الأمريكية بدل إعطائه مليارات الدولارات كما حصل لدى زيارته الأخيرة إلى بلادنا.
المطلوب ملء وقفية القدس المقرة منذ سنوات بالمال، وليس تركها فارغة، كما هو حاصل حاليًّا، لأن المال يحمي القدس ويعزز صمود أهلها ويقاوم مخططات التهويد، نكرر القول _أيها المجتمعون، ويا من اجتمعتم سابقًا_ لقد سمعنا الكثير من بيانات التأييد ومقررات التضامن والرفض، وما نريده وتريده القدس وما هو واجبكم ومسؤوليتكم هو تقديم المال، وكل الدعم الحقيقي المطلوب.