كما كان متوقعًا، أنهى المجلس المركزي الفلسطيني، قبل أيام، دورته الثامنة والعشرين، بكثير من الصخب، وقليل من النتائج التي كان الشعب الفلسطيني يتطلع إليها ويرتجيها. ولعله لا مبالغة في القول إن اجتماع المجلس هذا يستحق بحق أن يوصف بأنه اجتماع المفارقات، وذلك في تعبير عن حالة التيه والضياع التي يعرفها المشروع الوطني الفلسطيني تحت القيادة الحالية.
المفارقة الأولى أن الجلسة التي عقدت تحت عنوان: "دورة القدس العاصمة الأبدية لدولة فلسطين" تأخر انعقادها أكثر من شهر بعد إعلان الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، القدس عاصمة لـ(إسرائيل). ما يعيدنا إلى تصريح المندوبة الأميركية في الأمم المتحدة، نيكي هالي، بعد إعلان ترامب: "عندما أدلى الرئيس بالتعليق يوم الأربعاء الماضي قال الجميع إن السماء ستسقط على الأرض، ولكن مَرَّ الخميس والجمعة والسبت والأحد، والسماء لا تزال في مكانها. لم تسقط". المفارقة الثانية تمثلت في مكان انعقاد المجلس، في مقر الرئاسة الفلسطينية في رام الله، المحتلة عمليًا. بل إن رئيس السلطة محمود عباس نفسه يؤكد هذه الحقيقة، في خطابه أمام المجلس: "إننا سلطة من دون سلطة، وتحت احتلال من دون كلفة، ولن نقبل أن نبقى كذلك". ولا يُنسى هنا تصريحه في أغسطس/ آب 2013، أنه هو نفسه يعيش "تحت بساطير (الأحذية العسكرية) الإسرائيليين". ومن ثمَّ لا يفهم أبدًا إصرار عباس على عقد الجلسة في رام الله، لاتخاذ قرارات جوهرية ضد الاحتلال المحيط به، والمتحكم بكل حركاته وسكناته. كما لا يفهم مهاجمته، بطريقة مُسِفَّةٍ، الفصائل التي اعترضت على عقد اجتماع مهم وتاريخي كهذا تحت "بساطير الاحتلال".
أما المفارقة الثالثة فنجدها في دعوة المجلس إلى اتخاذ كل "الإجراءات لإسناد الشعب الفلسطيني في قطاع غزة، الذي صمد ببطولة أمام الاعتداءات الإسرائيلية والحصار الإسرائيلي، ودعم احتياجات صموده، بما في ذلك حرية تنقل أفراده واحتياجاته الصحية والمعيشية، وإعادة الإعمار وحشد المجتمع الدولي لكسر الحصار على قطاع غزة". ولكن لم يكد يمضي يومان على قرار المجلس هذا حتى كانت السلطات الصِّحِيَّةِ في القطاع تعلن، يوم الأربعاء الماضي، اتخاذ إجراءاتٍ تقشفيةٍ شديدةٍ لمواجهة أزمة نقص الوقود، التي باتت تهدّد مرافقها في ظل امتناع حكومة الوفاق الفلسطينية عن دفع النفقات التشغيلية لها.
ويستمر مسلسل المفارقات الكثيرة في دورة المجلس تلك، وهي أكثر من أن تحصر. منها قرار المجلس وقف التنسيق الأمني بكل أشكاله مع (إسرائيل)، في الوقت الذي يعلن فيه كبار قادة السلطة الفلسطينية، من سياسيين وأمنيين، استمرارهم بالتنسيق الأمني مع دولة الاحتلال. المفارقة الأخرى أن المجلس نفسه كان أصدر قرارًا في مارس/ آذار 2015 بإنهاء التعاون الأمني مع (إسرائيل)، لكنه بقي حبرًا على ورق. لم يحاسب أحد حينها، ولن يحاسب أحد الآن، فالمسألة كلها وعيد من دون تنفيذ.
بعيدًا عن كل ما سبق، فإن أكثر المفارقات مرارة في قرارات المركزي الفلسطيني تمثلت في تكليفه اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير تعليق الاعتراف بـ(إسرائيل)، إلى حين اعتراف الأخيرة بدولة فلسطين على حدود عام 1967. واعتبر المجلس أن الفترة الانتقالية التي نصت عليها الاتفاقيات الموقعة في أوسلو والقاهرة وواشنطن بما انطوت عليه من التزاماتٍ لم تعد قائمة. ما لم يقله المجلس المركزي هنا أن اتفاق أوسلو يمثل علامةً فارقةً في صيرورة تيهان بوصلة المشروع الوطني الفلسطيني، ذلك أنه لا ينص صراحة على قيام الدولة الفلسطينية العتيدة، بل يكتفي بالتلميح إليها على أساس "أن المفاوضات حول الوضع النهائي ستؤدي إلى تطبيق قراري مجلس الأمن 242 و338". الأخطر أن المجلس هنا يتجاهل أن الاعتراف الذي حصلت عليه إسرائيل من منظمة التحرير الفلسطينية كارثي بصيغته، فهو اعتراف بحق وجود غير مقيد، لا اعتراف أمر واقع. في حين اعترفت إسرائيل بمنظمة التحرير، بناء على التزامات قطعتها المنظمة على نفسها في نص اعترافها بالكيان الصهيوني.
وحسب رسائل الاعتراف المتبادلة بين الطرفين في سبتمبر/ أيلول 1993، فإن منظمة التحرير اعترفت "بحق دولة إسرائيل في العيش في سلام وأمن"، وأن الطريق الوحيد لحل الصراع "بين الجانبين" هو "حل سلمي" على أساس قراري 242 و338. وأعلنت المنظمة كذلك، حينها، إدانتها "استخدام الإرهاب وأعمال العنف الأخرى". والتزمت بأن "بنود الميثاق الوطني الفلسطيني التي تنكر حق إسرائيل في الوجود وبنود الميثاق التي تتناقض مع الالتزامات الواردة في هذا الخطاب أصبحت الآن غير ذات موضوع، ولم تعد سارية المفعول". أما الاعتراف الإسرائيلي بمنظمة التحرير، فقد جاء بالصيغة التالية: "ردًا على خطابكم المؤرخ في 9 سبتمبر 1993، أؤكد لكم في ضوء التزامات منظمة التحرير الفلسطينية المتضمنة في خطابكم، فإن حكومة إسرائيل قرّرت الاعتراف بمنظمة التحرير الفلسطينية باعتبارها الممثل للشعب الفلسطيني، وبدء المفاوضات معها في إطار عملية السلام في الشرق الأوسط".
ما يخلص إليه من كل ما سبق، وغيره كثير مما لا يتسع المجال لذكره هنا، أنه ليس وحده المشروع الوطني الفلسطيني الذي يعيش حالة تيه وتخبط وضياع، بل الكُلّ الفلسطيني يعيش الحال نفسه. كان يمكن القول إن ذلك ماضٍ قد انقضى، وإن هذه مرحلة جديدة، غير أن الواقع يقول غير ذلك. إن ماضي إخفاقات القيادة الفلسطينية الحالية ورعونتها ما زال هو حاضرنا، وإن بقينا على المنوال نفسه، فإن ذلك الماضي الكئيب المسكون بالفشل والكوارث سيكون مستقبلنا. لا يكفي أن تعلق هذه القيادة الاعتراف بـ(إسرائيل)، هذا إن تَمَّ أصلًا، كما أنه لا يكفي اعتبار الولايات المتحدة وسيطًا غير مؤهل، على الرغم من الشكوك في قدرة هذه القيادة على الخروج من تحت المظلة الأميركية، بل لابد من مسار جديد يقرّره الكُلُّ الفلسطيني في كل أماكن وجوده، ويعمل على تنفيذه، مهما كانت التضحيات. هذه القيادة التي تجأرُ اليوم من تسابق كثيرين من أركان النظام الرسمي العربي على (إسرائيل) هي من بادرت في فتح باب المزاد العلني الفضائحي الدائر الآن. يكفينا اختطافًا لقرارنا الوطني من قياداتٍ لم تعد تملك شرعية وطنية، ولا حتى مؤسسية. هل يعقل أن شعبًا أغلبه شابٌ، يتدفق نضالًا وحيوية يحكمه كهولٌ هَرِموا في مسار الفشل، ووضعوا كلَّ بيضهم في سلة (إسرائيل) وأميركا، ويريدون منا أن نصبر على الاحتلال والذلِّ حتى يأخذ الله أرواحهم، بحيث لا نعطل تقاعدهم الوطني على حساب الوطن وشعبه!؟