بعد أسبوعين من استحضار مفردات قواميس اللغة من شجب وإدانة واستنكار قرار الرئيس الأمريكي بشأن القدس وقد أقام الدنيا ولم يقعدها، بل بعد الفرح والحبور لما جرى في مجلس الأمن والجمعية العامة من تصويت وقرار وتعرية الموقف الأمريكي، يبقى السؤال قائمًا: ماذا نحن فاعلون، خاصة أن أمريكا عازمة على تنفيذ وعدها البلفوري من جانب واحد؟
وعلى ما يبدو أن الولايات المتحدة نفضت يدها من سياستها الثابتة القاضية بالاكتفاء بإدارة الصراع العربي الإسرائيلي على مدى سبعة عقود زمنية، وانتقلت إلى صفحة جديدة تقضي بحل النزاع برمته كما تتخيل عبر ما سمي بصفقة القرن وفق قواعدها وقواعد السياسة الإسرائيلية. وكأن الفلسفة البراغماتية التي تدير السياسة الأمريكية قد تخلت عنها الإدارة الأمريكية الحالية وتوجهت لحل شامل بالقطع لا يلبي مصالح الشعب الفلسطيني.
فالواضح أن الولايات المتحدة لن تتراجع ولن تعود عن قرارها غير الشرعي في موضوع القدس كعاصمة لـ(إسرائيل)، وواضح أنها ماضية في صممها وعازمة على غيها وموالاتها للكنيسة الإنجيلية المتصهينة واللوبي الصهيوني الإسرائيلي. بل قد تأخذ إن لم تكن قد أخذت قرارات أخرى تنهي الجدل السياسي وتقرر من طرف واحد حلولا بائسة لقضايا تعتبر لب الصراع الفلسطيني الإسرائيلي مثل الحدود والمياه واللاجئين والمستوطنات ضمن ما تسميه صفقة العصر. فماذا نحن فاعلون؟ أم أننا سننتظر، تمامًا كما انتظرنا لحين تم صدور القرار الرئاسي الأمريكي في موضوع القدس، رغم أنه كان معلقًا على الحائط منذ عام 1995، أو على الأقل في نهاية عام 2016 بعد انتخاب دونالد ترامب رئيسًا.
صحيح أن قرار ترامب هذا بشأن القدس يعتبر ساقطا قانونيا ودينيا وأخلاقيا كونه قرارا أحادي الجانب ولم يعترف به المجتمع الدولي كما هو تصرف غير أخلاقي لا حق له ولا لبلاده ولا لأي جهة التصرف في مقدرات الشعوب الأخرى، فالقدس ليست ملكا خاصا لترامب كي يهديها لمن لا يملك ولا يستحق، ما يدلل على إفلاس قراره من الناحية الدينية والتاريخية والحضارية، فرغم كل هذه الأدلة الدامغة التي تبطل قراره إلا أنه كان بالنسبة للاحتلال بمثابة حلم وهدية كبيرة وخدمة العمر، بل أكثر من هذا حتى أن قادة الاحتلال ذهبوا للقول إن الرئيس الأمريكي تفوق على هرتزل وبن غوريون في سخائه وكرمه الذي منحه الاحتلال مكافأة هزيلة بإطلاق اسمه على محطة قطار، حيث استغلوا قراره بإعلان سلطات الاحتلال عن نيتها ببناء مليون وحدة استيطانية جديدة بما بات يعرف بالقدس الكبرى والتوسع في الضفة الغربية على حساب الأراضي الفلسطينية، كما سارعت (الكنيست) بتطبيق قرار ترامب على أرض الواقع وسنت قانونا جديدا امتدادا لقانون عام 1980م اعتبار القدس موحدة وعاصمة الاحتلال الأبدية ولا تفاوض عليها، ولم تكتفِ بهذا الحد فلم تغمض عينها الأخرى عن باقي الضفة الغربية التي تنوي ضم جميع المستوطنات المقامة عليها.
القضية الفلسطينية مقدمة على منحنى شديد الخطورة بعد قرار ترامب الذي ستتبعه خطوات أخرى بالتأكيد على صعيد القضية الفلسطينية. لذا يبدو أن الثرثرات والإدانات والاستنكارات مهما كانت قوية وشاملة، لن تسمن ولن تغني من جوع ولن تعيد الولايات المتحدة لرشدها. بل إن كلمات الأرض على رحبها وسعتها لن تكفي لتراجع سلطات الاحتلال عن اتخاذ إجراءات تنفيذية على أرض الواقع لتنفيذ وعد ترامب.