فلسطين أون لاين

ابتزاز أميركي في الأمم المتحدة

فاجأت كلمات السفيرة الأميركية في الأمم المتحدة، نيكي هيلي، قبل جلسة التصويت على قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رفض الاعتراف الأميركي بالقدس عاصمة لـ(إسرائيل)، كثيرين بالدهشة والذهول، فقد هدّدت بالانتقام من الدول التي ستصوّت لصالح القرار، بقطع المعونات الاقتصادية الأميركية عنها. كما تحدثت هيلي، بعنجهية وغطرسة لا تليق بمقامها الدبلوماسي، حين ربطت بين حصة أميركا في تمويل الأمم المتحدة (حوالي ربع ميزانيتها) وحرية الدول الأعضاء في اتخاذ مواقف تتناسب مع مصالحهم وسيادة قراراتهم. الأنكى من ذلك ما تعهدت به هيلي بأن تكتب أسماء الدول التي توافق على قرار الجمعية العامة إدانة قرار ترامب، تمهيداً لمعاقبتها، وهو ما جعل تصريحاتها موضع سخرية للصحف الأميركية والعالمية وصفحات السوشيال ميديا، وإن كان قد ألهب حماس مؤيديها من الحزب الجمهوري، ودفعهم إلى تأييدها، والمطالبة بمزيد مما يعتبرونها مواقف حاسمة لبلادهم في الأمم المتحدة.


فسّر بعضهم سلوك هيلي بالانتهازية السياسية، ورغبتها في تقديم نفسها لليمين الديني واللوبي اليهودي في أميركا، بسبب احتمالات ترشحها في الانتخابات الرئاسية الأميركية مستقبلاً. ولربما ترغب في الحصول على منصب وزيرة الخارجية في العامين المقبلين خلفاً للوزير الحالي ريكس تيلرسون الذي تزداد معدلات خروجه من الوزارة باضطراد. وهو أمر لا يجب استبعاده في حالة التراجع التي يعيشها الحزب الديمقراطي، ومرشحته السابقة هيلاري كلينتون، وفي ظل رغبة الجمهوريين في أن تتولى أي سيدة رئاسة أميركا من صفوفهم. أي أن هيلي تسعى إلى الاستثمار في حدث سياسي عالمي، من أجل تحقيق مصالح ومآرب شخصية، وإنْ على حساب ملايين البشر.


تصرّفت هيلي وكأن بلادها قد اشترت الأمم المتحدة لصالحها، كونها تحتضن مقرّها العام في نيويورك. في حين تكشف كلماتها وسلوكها في الأمم المتحدة، والذي باركه الرئيس الأميركي دونالد ترامب، عمق التحولات التي أصابت السياسة الأميركية منذ وصول اليمين المتطرّف إلى السلطة قبل عام، وحوّل أميركا من دولة تحترم تعهداتها والتزاماتها الدولية إلى دولة أنانية لا تنظر سوى إلى مصلحتها، ولا تحترم سيادة الدول الأخرى. يحاول ترامب أن يغيّر منطق العلاقات الدولية من الشراكة والتعاون إلى منطق البيزنس والمنفعة الذاتية، القائم على البلطجة والابتزاز، وهو لا يدرك عواقب ذلك على الأمن والسلم الدولييْن. وهو سلوك مراهقٍ لا يستوعب حجم المخاطر التي تواجه العالم. صحيح أن الأمم المتحدة فقدت الكثير من وزنها ودورها، خلال العقود الأخيرة، لكنها تظل مظلة الشرعية الدولية التي يتحرّك المجتمع الدولي من خلالها.


وحسب تقارير إخبارية عديدة، فإن ترامب غير راض عن أداء الأمم المتحدة، ويرى أنه لا يتسق مع المصالح الأميركية، ولا مع حجم التمويل الذي تدفعه واشنطن لها. بل تكهنت تقارير بأن واشنطن ربما تفكر في الانسحاب من المنظمة الدولية، على غرار ما فعلت في اتفاقات ومناسبات أخرى، منها اتفاقيتا التغير المناخي والشراكة مع آسيا. وهو أمر يصعب تصوره، خصوصا في ظل امتلاك واشنطن حق النقض (الفيتو) في مجلس الأمن، والذي لا يمكن التفريط فيه بأي ثمن.


لم يثن التهديد الأميركي بمعاقبة كل من يصوّت لصالح القرار 128 دولة صوّتت بالإيجاب على رفض قرار ترامب، ولم تعبأ بالتهديدات الأميركية، في حين رفضته تسع دول أو بالأحرى جزر غير معروفة، وامتنعت 35 دولة عن التصويت، ويعد هذا تحدياً قوياً للموقف الأميركي وضربا لتهديدات هيلي عرض الحائط.


لم تكترث هيلي، ومن خلفها ترامب، بحجم المعارضة الدولية لقرار الاعتراف بالقدس عاصمة لـ(إسرائيل)، والذي لم يجرؤ رئيس أميركي سابق على اتخاذه. ولا يبدو أنهما عابئان بتداعيات القرار، ليس على مصير القضية الفلسطينية فحسب، وإنما على المصالح الأميركية ذاتها، خصوصا على المدى الطويل. وقد وضع قرار الجمعية العامة واشنطن في عزلةٍ واضحةٍ عن بقية المجتمع الدولي، ورسّخ الصورة الذهنية بأن أميركا لا يمكن أن تكون وسيطا نزيها أو جادّاً في أي عملية للسلام، وهو أمر وإن كان واضحاً منذ فترة، فإن ما حدث أخيرا يؤكده بشكل قاطع.


وبموقفها هذا، تكون هيلي قد وضعت نفسها وبلادها أمام تحدٍ جديد، فمن جهةٍ لم تردع تهديداتها عشرات الدول من التصويت ضد قرار بلادها في الجمعية العامة للأمم المتحدة. ومن جهة أخرى، وضعت بلادها في موقف محرج مع كثير من حلفائها الذين خالفوا قرار بلادها. ولا ندري إذا ما كانت إدارة ترامب سوف تلتزم بما قالته هيلي، وتقطع المساعدات عن دول وحلفاء صوّتوا مع قرار الجمعية العامة، ومنها مصر والعراق وأفغانستان والأردن وغيرها. بكلماتٍ أخرى، تبدو واشنطن كمن قفز إلى أعلى شجرة ولا يعرف كيف ينزل عنها. وأغلب الظن أنها ستعاقب بعض البلدان، بسبب تصويتهم ضدها في الجمعية العامة للأمم المتحدة، وإن لن يعني ذلك القطيعة معها.


العربي الجديد