لا تتوقف "فضائل" ترامب علينا، نحن الذين كنا ولا زلنا نصرخ في عربنا أن أفيقوا من أوهام "الصديق الأمريكي"، و"الوسيط الأمريكي".
وفيما كان أوباما يبيع على بعض عربنا الأوهام هنا وهناك، من دون أن يفعل أي شيء خارج سياق الرؤية الأمريكية للمنطقة وأهلها، وهو ذاته من دشّن استراتيجية الموت والدمار في سوريا عبر إطالة النزاع لاستنزاف الجميع خدمة للبرنامج الصهيوني، ها إن ترامب يكون أكثر وضوحا، ربما لأن من أوصلوه إلى السلطة (اليمين المسيحي الذي ينتظر معركة "هرمجدون") يحتاجون لمثل ذلك، وربما لأن مخاوفه من الإطاحة به تدفعه إلى مجاملة اللوبي الصهيوني على كل صعيد، وربما لأنه في الأصل كائن أرعن وخارج التوقعات.
الفضيلة الكبرى التي أكرمنا بها ترامب هي قراره بالاعتراف بالقدس عاصمة للكيان الصهيوني، وهو القرار الذي أعاد القضية الفلسطينية إلى الصدارة من جديد، في الوقت ذاته الذي أبعد عنا شبح "صفقة القرن" التي كان يطبخها لتصفية القضية الفلسطينية.
سيحاول أن يواصل الضغط على حلفائه من جديد بوسائل عديدة، كما باستعادته لمقولات الدفع مقابل الحماية التي أطلقها في خطابه الأخير يوم الاثنين الماضي، لكن ما يطلبه يبدو مستحيلا، حتى لو وافقوا عليه، فكيف والأمر سيكون بالغ الصعوبة عليهم؟!
في الخطاب ذاته سمعناه يتحدث عن 7 تريليونات دولار (هذا هو الرقم الذي ذكره)، صُرفت في الشرق الأوسط بدل أن تصرف في البنية التحتية في الولايات المتحدة، وذلك في معرض الحديث عن حادث قطار في "سياتل"، لكأن دولته صرفتها على رفاه شعوبنا، وليس على القتل والتدمير، ومن أجل ذات الأحلام الصهيونية، ولإرضاء ذات اليمين المسيحي المتصهين (ذهب بوش إلى العراق لإعادة تشكيل الشرق الأوسط على مقاس الحلم الصهيوني، من أجل "هرمجدون" أيضا، وإرضاء للكنائس المعمدانية الجنوبية الإنجيلية التي أوصلته إلى السلطة!!).
يوم الإثنين الماضي أيضا كان الفيتو رقم (43) الذي استخدمته أمريكا لصالح الكيان الصهيوني، لكن نكهته كانت مختلفة إلى حد ما؛ ليس فقط عبر الخطاب المتغطرس لمندوبة ترامب الأكثر صهينة بين مندوبي واشنطن الأمميين (أغدق عليها نتنياهو المديح بعد موقفها)، ربما على مدى التاريخ (نيكي هيلي)، ولكن لأنه وقف على النقيض من جميع أعضاء مجلس الأمن بلا استثناء دفاعا عن قراره بالاعتراف بالقدس عاصمة للكيان الصهيوني.
رد المجتمع الدولي عليه كان مدويا، بخاصة في قرار الجمعية العام يوم الخميس، والذي جاء صفعة كبيرة رغم تهديداته لمن سيصوّتون ضد قراره.
قبل ذلك كان البيت الأبيض يعلن أن حائط البراق (المبكى كما يسمونه) إسرائيلي، في خطوة غير مسبوقة أيضا، فيما كان نائب ترامب (مايك بنس) يريد أن يعقد مؤتمره الصحفي عند الحائط خلال الزيارة التي كان ينبغي أن تكون الأربعاء الماضي، ثم تأجلت بسبب التصويت على خطة الإصلاح الضريبي، والمثير للسخرية أن ما يعرف بـ"حاخام حائط المبكى" هو الذي اعترض على فكرة أن يعقد بنس مؤتمره الصحفي عند الحائط، لأنه يرفض استغلال "الأماكن المقدسة لأهداف سياسية"!!
هذا الابتزاز المفضوح الذي مارسه ترامب مع العرب، وما زال يمارسه، مارسه أيضا مع إيران، ولا زال يمارسه، وفي الحالتين (مطالبة العرب بدعم صفقة القرن، وابتزاز إيران) يتم ذلك لصالح الكيان الصهيوني، بينما لا يريد مساعدة طرف ضد الآخر، إلا بما يبقي الصراع مشتعلا بينهما.
هل يستيقظ الطرفان على هذه الحقيقة، أعني العرب وإيران، ومعهما تركيا؟ حقيقة أن أمريكا تبتز الجميع لصالح الكيان الصهيوني، وهي سعيدة بهذا الحريق الذي يستنزف الجميع، فيأتوا إلى كلمة سواء؟!
لا شيء يشير إلى ذلك مع الأسف، فخامنئي لا يزال يطارد ثاراته التاريخية، والآخرون يتحركون على وقع الخوف الطبيعي من أحلامه تلك، ويدفعون الفواتير الباهظة، وبين الطرفين تنزف الشعوب، وإذا كان ثمة أمل، فهو أن تفضي جراح القدس إلى صحوة ضمير، تسبقها صحوة عقل، لأن النزيف الراهن لا يخدم سوى أعداء الأمة، ومن ضمنها روسيا أيضا، وليس أمريكا فقط.